Tuesday, 31 January 2017

فيلم الدرويش: فيلم قصيد











كتب ضياء أبو اليزيد
فيلم الدرويش هو فيلم قصيد، أي نعم بالدال زي ما قريتها كده :) هو صحيح فيلم قصير زمناً بس هو في حقيقته قصيدة في شكل سينمائي. و أعلم – أعزك الله – أن القصيد هو المجوَّد المنقح من الشعر كما في معجم المعاني :) و هو ده اللي بيخلي الكلام عن الفيلم صعب، لأن إيه اللي يقدر يحكي عن القصيدة غير القصيدة ذاتها ؟؟
بعيداً عن التفاصيل التقنية و المعالجة السينمائية للفكرة، الفيلم فيه مقدار من الصدق يخلي قلبك يدق من أول مشهد لآخر مشهد. السخرية من الذات و نقدها بشكل لاذع واضحة في الفيلم للي يقدر - أو عاوز - يشوف.
لكن كمان الفيلم من مدخل آخر هو تمجيد لتلك الذات ( أو لذاك الدرويش غير العابيء) في مواجهة حياة  وحشية تطحن عظام الكل قبل لحومهم، و أولهم ... بل أولنا، أرق من فينا : ذلك الحالم الذي لا يريد من هذا العالم سوى أن يكتب له قصيدة أخيرة، و يمضي.

الفيلم من بطولة: أحمد صبري غباشي
إخراج: خالد منصور
إنتاج: مصراوي


Sunday, 29 January 2017

سينما يوسف شاهين جـ3 - أدواته كمخرج ومفرداته السينمائية

أجواء (يوسف شاهين) السينمائية
3 - أدواته كمخرج، ومفرداته السينمائية
بقلم : أحمد صبري غباشي 


    أما في القسم الثالث والأخير من هذه الدراسة فسنتحدث عن أدواته ومفرداته السينمائية الخاصة ..
فلـ(يوسف شاهين) تحديداً لغة سينمائية متفردة تخصه وحده .. تستطيع أن تميزه بها لو لم تكن تعرف أنه هو مخرج الفيلم الذي تشاهده ..
فكما قلتُ سلفاً في بداية هذه الدراسة أن منهجه الذي التزمه دوماً في فنه هو الإبهار بدون خدع أو مؤثرات بصرية .. إبهار الفكرة .. إبهار التصوير ذاته وطريقة أخذ الكادرات .. ولهذا فقد ارتبط هو نفسه ارتباطاً كبيراً بالكاميرا .
نلاحظ كثيراً أن حركة الكاميرا في كادراته تتسم بالحيوية والحركة مما يقتل أي إحساس بالضجر ويخلق نوعاً محبباً من التشويق حتى لو لم يكن على مستوى الحدث ذاته ، فهو موجود في الصورة .. كما أن مجرد التقطيع عنده أيضاً له دلالات تؤثر في انطباع المشاهد .

تأثره الواضح بالمسرح : -
نأتي أيضاً لنقطة مهمة يستحيل تجاهلها ما دمنا نتحدث عن (يوسف شاهين) : ولعه الشديد وتأثره الواضح بالمسرح .. فقد درس التمثيل والمسرح في كلية (فيكتوريا) واشتغل مخرجاً مسرحياً في فترة مهمة من حياته أخرج فيها بعض مسرحيات (شكسبير) وشارك بالتمثيل فيها .. وربما ظهر في أفلامه أكثر من مرة ارتباطه الشديد بدور (هاملت) .
يظهر تأثره بالمسرح دوماً في أسلوبه الإخراجي ؛ على الرغم من أنه إخراج للسينما وليس المسرح .. ولكن كل من يشاهد أفلامه يلحظ في الكادر هذا أو ذاك تأثراً واضحاً بتقنيات المسرح وعوالمه .. الكادر عنده عبارة عن لوحة فنية لابد أن تخرج متقنة .. يهتم فيه بالإضاءة وبالزوايا ، ولابد أن يتم توزيع العناصر فيه بدقة شديدة كي يصل المغزى المراد من مجرد طريقة أخذ كادر ، وليس عن طريق إحكام السيناريو حتى .. من المؤكد أن معظم المتابعين يتذكرون الكادرات الخالدة في الناصر صلاح الدين ، وبياع الخواتم ، والأرض ، وعودة الابن الضال ، والكثير من أفلامه الأخرى ..

ومن أوضح العلامات كذلك على تأثره بالمسرح هو اهتمامه الشديد بعنصر (الأغنية) في أفلامه .. فالأغنية عنده لابد أن تكون ذروة لحدث درامي ؛ بنهايتها نصل لشيء جديد معين .. فتدخل الأغنية بذلك في صميم البناء الدرامي للفيلم .. ولهذا فـ(شاهين) يقوم بتحضير أغاني أفلامه بشكل دقيق جداً وفائق العناية .. يتفق مع الشعراء الذين يكتبون الأغاني ويوجههم في المسار الذي يريد لكلمات الأغاني أن تكون فيه ، ويجعلهم على دراية بوظيفة الأغنية بالنسبة للسيناريو بحيث لا تقف أحداث الفيلم كي نسمع أغنية .. لأن هذا يسبب ما يسمى بالهبوط الدرامي ويفصل المشاهد تماماً من حالة الفيلم .. وهذه النقطة بالتحديد هي أكثر ما يثير جنوني وسخطي في الكثير من أفلامنا القديمة .. حيث يتم بتر أحداث الفيلم بتراً لتقديم استعراض راقص أو أغنية لا علاقة لها بأحداث الفيلم لمجرد استعراض الصوت وإمكانيات الرقص !
ولهذا فإن (شاهين) يعتبر الأغنية سلاح خطير جداً .. وأعتقد أنه لهذا السبب ولاختياراته الدقيقة ظهرت في أفلامه أقوى الأغاني التي عرفناها في السينما حتى الآن والتي يرددها أغلبنا حتى لو لم نكن من متابعي الأفلام نفسها ..
فمن منا ينسى أغنية (الأرض لو عطشانة) في فيلم (الأرض) ؟ أو أغنية (راجعين) في فيلم (العصفور) التي أصبحت أغنية الجنود على الجبهة في يوم العبور العظيم ؟ أو أغنية (علي صوتك) بصوت محمد منير في (المصير) ؟ أو أغاني ماجدة الرومي في (عودة الابن الضال) ؟ أو أغنية لطيفة الشهيرة (تعرف تتكلم بلدي) في (سكوت ح نصور) ؟ أو الأغنية الأكثر من رائعة (بنت وولد) في (إسكندرية نيويورك) ؟ .. كل هذه أغاني عاشت في وجدان الشعب المصري ولو لم يكن الجمهور نفسه على دراية بالأفلام .

ابتكار تقنية تصوير (الثبات) : -
دوماً كانت تواجه المشاهد مشكلة عند مشاهدة أي معركة حربية في أي فيلم تاريخي .. وهذه المشكلة تكمن في حركة الكاميرا التي يحسها سريعة ومبتورة وفوضوية بعض الشيء .. فينتابه شعور بالتوتر والضيق بدون وعي منه لأنه يريد أن يرى مشهداً لا يراه فعلاً وإنما يلمحه بشكلٍ خاطف .. و(شاهين) بعبقريته الإخراجية قد قام بحل هذه المشكلة وقدم الحل بشكلٍ راقي جداً ومُرضي وعلى مستوى فني عالي بالفعل .. فقد قام بعمل تقنية تصوير جديدة عند تصوير مشاهد القتال في فيلم (الناصر صلاح الدين) فصنع ما يسمى بتثبيت اللحظة وأصبحت المشاهد عبارة عن مجموعة من اللقطات الثابتة المتتالية التي تعرض حركة الخيل وضربات السيوف وهجوم الجنود .. وعن هذا قال (شاهين) :
" السينما أعطتني القدرة على الحركة السريعة (fast motion) وطبعاً ليها استخداماتها ، وبرضه اديتني القدرة على الحركة البطيئة (slow motion) ودي برضه ليها استخداماتها وتوظيفها .. كان لحظات الثبات أو توقيف الزمن ودي أنا استخدمتها كويس في الفيلم ده ؛ علشان لما يبقى فيه معركة أو حرب أول لحظة هجوم أو صدام الواحد بيبقى مش عارف يشوف حاجة ، فعملت كده .. ما دامت السينما تسمح لي إني ألعب في الوقت وأسرقه وأحفظه وأثبته وأطوله على كيفي .. ليه مستخدمش الإمكانية دي ؟ "

المأساة الموسيقية ، وتجدد اللغة السينمائية : -
ابتكر (يوسف شاهين) لوناً جديداً في السينما المصرية والعربية أسماهُ : المأساة الموسيقية .. ويتضح هذا في فيلم (عودة الابن الضال) ..
" أقصد بهذا التعبير الاجتهادي التفرقة بين الفيلم وما يطلقون عليه في هوليود أفلام الكوميديا الموسيقية . فهناك أغانٍ في الفيلم ، ولكن ليس معنى هذا أنه فيلم كوميدي . إنه ليس فيلماً كوميدياً ، وليس أيضاً من الأفلام التي يطلقون عليها في مصر : الأفلام الغنائية "
وبسبب منهجية التفكير هذه نجد أن لغة (شاهين) السينمائية متجددة ومتطورة دائماً وأبداً .. فقد جرب على مدار مشواره الفني كل الاتجاهات السينمائية تقريباً .. فقد قدم الأفلام الكوميدية كـ(بابا أمين) ، و(المهرج الكبير) .. والأفلام الاجتماعية كـ(ابن النيل) ، و(صراع في الوادي) ، و(نساء بلا رجال) ، و(سيدة القصر) .. وكذلك الأفلام التاريخية التي خاض فيها مغامرة تقديم حقب تاريخية لم ينقّب فيها أحدٌ قبله .. كالحقبة الفرعونية في (المهاجر) والتي خرجت بشكل مشوق فعلاً ، وحقبة الحملة الفرنسية التي كانت منسية سينمائياً في (وداعاً بونابرت) ، وحقبة (الناصر صلاح الدين) ، وحقبة ابن رشد في (المصير) .. وكلها كانت تجارب ثرية وجديدة على السينما عموماً على الرغم من اختلافنا حول الرؤى نفسها الموجودة في سيناريوهات هذه الأفلام .
وأيضاً قدم الفيلم السياسي .. مثل (الأرض) ، و(الاختيار) ، و(العصفور) ، (وعودة الابن الضال) ، و(الآخر) ..
وأفلام السيرة الذاتية الشهيرة ، وكذلك قدم الأفلام الغنائية كـ( انت حبيبي) ، والاستعراضية الغنائية كتحفته (بياع الخواتم) التي لعبت فيها المطربة الأسطورية (فيروز) دور البطولة إلى جوار المطرب الرائع : (نصري شمس الدين) .. وقد خصصت لهذا الفيلم مقالاً مستقلاً أيضاً لما له من وضع خاص .
هذا بالإضافة إلى الكثير من التناولات الفانتازية المتناثرة هنا وهناك في بعض هذه الأفلام وقد مكنه هذا من أن يستخدم الرسوم المتحركة في أعماله ..
كل هذا ليثبت (شاهين) مدى احترافه وتمكنه وعبقريته ، مهما اختلف اللون السينمائي الذي يقدمه .. وقد أثبت هذا بالفعل .

أخرج (شاهين) ما يقرب من خمسة أفلام قصيرة ؛ لكنه لم يجد نفسه فيها أبداً وذلك باعترافه هو .. ربما لهذا لم يلقَ أي من هذه الأفلام ما يكفي من شهرة ، ومنا ما لم يتم عرضه أصلاً .

*     *     *     *

    والآن ما رأيك ؟ من بين كل هذه الأفلام التي سبق الحديث عنها ؛ كم فيلماً شاهدت ؟ وكم مما شاهدتَ قد أعجبك ؟ .. هل اختلفت – أو تعدلت – نظرتك لسينما (يوسف شاهين) ؟ هل تنوي المضي قدماً في متابعته بدءً من الآن ؟
الاستفزاز في الأمر كله يكمن - كما قلتُ سلفاً - في أن هذا المخرج ظلمه جمهوره .. أو ربما قد أتى في وقتٍ لا يحتاجه فيه هذا الجمهور .. لكن هذا قطعاً ليس مقياساً للقيمة الفنية .. وكم من أفلامِ قد فشلت جماهيرياً لكنها أصبحت فيما بعد من علامات السينما .. لا زلتُ أصر أن فيلم (إليزابث تاون) الذي صدر منذ عامين من بطولة الواعد (أورلاندو بلوم) والجميلة (كرستين دانست) – واحداً من أفضل الأفلام التي رأيتها في حياتي ، وقد صُدِمتُ فعلاً لما علمت أنه قد فشل جماهيرياً ..
ولِمَ نذهب بعيداً ؟ .. على مستوى أفلام (يوسف شاهين) نفسها نجد مثلاً أن فيلمه الأسطوري (الناصر صلاح الدين) لم يحقق إيرادات تذكر وقتها ، وكذلك فيلم (باب الحديد) الذي يعده النقاد من أهم أفلام السينما المصرية قد تم رفضه من قِبَل الجمهور وقتها وبصق أحد المشاهدين في وجه (شاهين) بعد مشاهدة الفيلم .
ولأن إبداعه متميز جداً ، ولأن إخراجه يُحترم .. فقد عمل تحت توجيهاته مجموعة من أقوى وأشهر النجوم في الوطن العربي .. كـ (يوسف وهبي) ، و(محمود المليجي) ، و(شكري سرحان) ، و(أحمد مظهر) ، و(زكي طليمات) ، و(حمدي غيث) ، وقيثارة الشرق : (فيروز) ، و(محسن محيي الدين) ، و(نور الشريف) ، و(محمود حميدة) ، و(يسرا) ، و(خالد النبوي) ، و(حنان ترك) ، و(حسين فهمي) ، و(سعاد نصر) ، و(ماجدة الخطيب) ، و(خالد صالح) ، و(منة شلبي) .. والكثير والكثير ..
وأيضاً تعلم منه وخرج من تحت عباءته الكثير من المخرجين .. منهم على سبيل المثال المخرج : (يسري نصر الله) ، والمخرج : (خالد يوسف) .

ولـ(شاهين) بعض السقطات .. منها على سبيل المثال أنه قد كرر تجربة الإنتاج المصري الفرنسي المشترك التي تمت في فيلمه (اليوم السادس) وقد أحدث هذا الأمر خللاً بان في أداء ونطق الممثلة داليدا – كرر هذه التجربة مرةً أخرى في فيلم (وداعاً بونابرت) على الرغم من قراره أنه لن يكررها .. ولهذا السبب أرجع الناقد (سمير فريد) فشل هذين الفيلمين لأنه اعتبر أنهما قد تما لأغراض تجارية .
ومن المآخذ الخطيرة التي تؤخذ على (شاهين) هو مشاركاته غير القليلة في كتابة سيناريوهات أفلامه التي لا تخرج بالشكل المتميز الكافي .. فالكثير من أفلامه تعتمد في واقع الأمر على سيناريوهات ركيكة ، ولولا إبداعه الإخراجي فيها لما تبقى منها شيء .

    في نهاية هذه الدراسة المتواضعة ينبغي أن أشير إلى أمرٍ بالغ الأهمية فأقول أن عبقرية (يوسف شاهين) الإخراجية كانت هي الدافع الوحيد الذي دفعني لكتابة مثل هذه المعلومات وسرد هذه الانطباعات النقدية ، وبذل بعض الجهد في سبيل هذا .. لأنه كمخرج يستحق أن نوفيه حقه الذي بخسه الكثيرون .. لكني في ذات الوقت ينبغي أن أقول بوضوح : أن لي بعض التحفظات الكثيرة على (يوسف شاهين) كشخص ، وكمفكر ، وكسيناريست .. وثمة بعض النقاط التي أختلف – ويختلف معي الكثيرون – معه فيها كلياً .. ولم أُرِد أن أجعل هذه الدراسة التي أردتها تعريفية أكثر منها شيئاً آخر – منبراً لحشو التحفظات وتفجير الاختلافات في وجهات النظر .
(يوسف شاهين) المخرج عبقري تماماً ، ولا يختلف أحدنا على ذلك .. وأختم بما قاله عنه د. (رفيق الصبان) في كتابه (أضواء على الماضي) :

"شاهين يستطيع أن يضع السماء بكل اتساعها في غيمة واحدة أحياناً ، وأمطار الدنيا كلها في كأس رقراقة شفافة من الكريستال ، وعيون نساء الأرض في نظرة ، وشبق الكون في قبلة لا نراها "

أحمد صبري غباشي


فيلموجرافيا (يوسف شاهين) : -

- بابا أمين (1950)
- ابن النيل (1951)
- المهرج الكبير (1952)
- سيدة القطار (1952)
- نساء بلا رجال (1953)
- صراع في الوادي (1954)
- شيطان الصحراء (1954)
- صراع في الميناء (1956)
- ودعت حبك (1956)
- انت حبيبي (1957)
- جميلة الجزائرية (1958)
- حب إلى الأبد (1959)
- بين ايديك (1960)
- نداء العشاق (1960)
- رجل في حياتي (1961)
- الناصر صلاح الدين (1963)
- بياع الخواتم (1965)
- فجر يوم جديد (1965)
- رمال من ذهب (1966)
- عيد الميرون (1967) - فيلم قصير
- الأرض (1970)
- الاختيار (1971)
- سلوى (1972) - فيلم قصير
- الناس والنيل (1972)
- انطلاق (1973) - فيلم قصير
- العصفور (1974)
- عودة الابن الضال (1976)
- إسكندرية... ليه؟ (1979)
- حدوتة مصرية (1982)
- وداعًا بوناپارت (1985)
- إسكندرية كمان وكمان (1990)
- القاهرة منورة بأهلها (1990) - فيلم قصير
- المهاجر (1994)
- المصير (1997)
- كلها خطوة (1998) - فيلم قصير
- الآخر (1999)
- سكوت ح نصور (2001)
- 01 9 11 سبتمبر 11 (2002)
- إسكندرية.. نيويورك (2004)
- هي فوضى (2007)



المراجع : -

- (سينما يوسف شاهين .. تطور الرؤية والأسلوب) لـ(سعاد شوقي)
- (أضواء على سينما يوسف شاهين) .. لـ(سمير فريد)
- (أضواء على الماضي) .. لـ(د. رفيق الصبان)

- الإنترنت

Saturday, 28 January 2017

سينما يوسف شاهين جـ2 - أفلام السيرة الذاتية

أجواء (يوسف شاهين) السينمائية
2 - أفلام السيرة الذاتية
بقلم: أحمد صبري غباشي


في القسم الثاني من هذه الدراسة عن #سينما_يوسف_شاهين سنتناول مرحلة صياغته لسيرته الذاتية ..
 ولنسأل هنا سؤالاً .. من يستطيع أن يتعرى فكرياً ، ونفسياً ، واجتماعياً ، وجنسياً وبكافة الأشكال الأخرى – إلا من الملابس بالتأكيد – أمام الجماهير ؟!
 (يوسف شاهين) فعلها .. وهذا أمرٌ يحتاج إلى جرأة نادرة وصدق بالغ .. ولقد أقنعنا هو فعلاً بالنسبة لجرأته أكثر من مرة حتى آمنا بها ، أما بالنسبة للصدق فلا أحد يستطيع أن يجزم بهذا الأمر سوى (شاهين) نفسه لأنه أدرى بتفاصيل حياته من الناس كلها ، وهو الوحيد الذي يدري هل نقلها كما يجب أم لا ؟ .. لكن على كل حال لا نستطيع أن ننكر أنه قد نجح بالفعل في جعلنا نشعر بصدق أعمال سيرته الذاتية هذه سواء كانت صادقة أو مبالغ فيها !
 وبشأن موضوع سينما السيرة الذاتية هذا فقد تأثر (شاهين) في هذا الأمر بمخرجين قد سبقوه إلى هذه التجربة .. مثل المخرج الإيطالي (فيلليني) ، والفرنسي (فرانسو تريفو) ، و(بوب فوس) .
يجزم بعض النقاد بأن معظم أعمال (يوسف شاهين) على مدار سنوات إبداعه الستين فيها شيءٌ منه .. وأنا أعتقد أيضاً أنه دوماً يودع تكوينه النفسي وبعض صفاته وجزءٌ من شخصيته في أحد شخصيات كل فيلم يخرجه .. ولما وجد أن عنده المزيد في هذا الصدد لا زال لم يقدمه بعد ؛ فقد بادر بإصدار رباعية سيرته الذاتية غير المتصلة : (إسكندرية ليه ؟) ، و(حدوتة مصرية) ، و(إسكندرية كمان وكمان) ، و(إسكندرية .. نيويورك) ..
 في هذه الأفلام الأربعة كشف نفسه وهواجسه تماماً وعلى كافة الأصعدة بشكلٍ نادر أن يحدث .. وأصبحت تجربته هذه بمثابة أول سيرة ذاتية في تاريخ السينما المصرية .
فقط استبدل اسمه الحقيقي باسم يبدأ بنفس حرفي اسمه (يحيى شكري) كي يستخدمه ويظل ثابتاً مع الشخصية خلال الأربع أفلام .
 وبشأن أفلامه هذه قالت الناقدة (سعاد شوقي) في كتابها الوافي عنه :
" .. ولعلنا نلاحظ أن (يوسف شاهين) من السينمائيين العرب القلائل جداً الذين استطاعوا الحديث عن أنفسهم وهمومهم وهواجسهم الذاتية دون الابتعاد عن هموم الوطن والمجتمع ، حيث يلتقي عنده الهم الذاتي بالهم الموضوعي بلا أي افتعال ؛ فيؤلفان نظرة نقدية ثاقبة وحادة للواقع الاجتماعي والسياسي ..
 إن عرض (شاهين) لذاتيته لا يعتبر عرضاً لنرجسيته ، أو حتى لتمجيد الأنا .. فيوسف شاهين لا يتحدث عن نفسه من منطلق النرجسية وإنما يتحدث عن نفسه ليكتشفها ويكشف معها تناقضاته وهواجسه وتربيته وأفكاره وضعفه وقوته وعائلته .. بل ومحيطه ومجتمعه . "
في هذه الأفلام سالفة الذكر تحديداً نقترب من (يوسف شاهين) كفنان ، ومخرج ، وإنسان عادي .. فهو في (إسكندرية ليه؟) قدم عرضاً لسنوات صباه وحلمه بالسفر لأمريكا من خلال تجسيد الفنان الموهوب (محسن محيي الدين) للدور .. وقدم بشيءٍ من التفصيل الكثير من الأفراد في محيطه .. أصدقاءه .. عائلته .. عشقه للمسرح وحلمه بدراسة الفن في أمريكا ، وكفاح عائلته المادي من أجل تحقيق هذا الحلم ومن أجل أن ينال حظه من التعليم كأبناء الطبقة البرجوازية .. وينتهي الفيلم بوصوله إلى أمريكا بالفعل .. البلد الحلم .. الذي سيكتشف فيما بعد أنها كابوس ..
وفي (حدوتة مصرية) يتناول حياة (يحيى شكري) أيضاً – وقد لعب دوره (نور الشريف) .. ولكن بصفته مخرج ناجح هذه المرة وليس مجرد صبي يدرس لا زال يحلم ويدرس العلم .. تعرض لطفولته ، ولعلاقته السيئة بأمه المتسلطة ، وكذلك علاقة أخته به ، وعلاقة الفتور بينه وبين زوجته .. وبعض مشاكل أفلامه كمخرج .. أكثر ما وضح في هذا الفيلم هو الجمع بين (يحيى الكبير) المخرج الناجح ، و(يحيى الصغير) الطفل المتمرد في تناول فانتازي كان له أثره .. لينتهي الفيلم بتصالح بين الاثنين وتنزل كلمة (البداية) بدلاً من كلمة (النهاية) كتصور من (شاهين) نفسه أن في تصالحه مع ذاته وفي عيشه لحالة السلام النفسي هذه بداية حياة جديدة له .
وبالنسبة لفيلم (إسكندرية كمان وكمان) فأعتقد أن (شاهين) قد عبر بكلمات موجزة عن الفيلم أفضل من أي تعليقات روتينية كنت سألقيها أنا هنا .. فقد قال :
" (إسكندرية كمان وكمان) إعلان عن الذات .. فضح الذات .. هو أوهامي .. اختبار أوهامي .. معرفة هل هي أوهام !! .. تقول إن عنوان فيلم (كيروساوا) الجديد : (عشرة أحلام) . برافو عليه . فيلم عن أحلامه وهو في السبعين من عمره أو أكثر . إنه الموضوع الوحيد الصحيح بالنسبة إليه الآن ، وبعد كل ما قدم من أفلام .. لقد اخترتُ أيضاً الموضوع الصحيح وحديثي إلى الشباب . أنا لم أنجب ذكوراًَ ولا إناثاً ، ولكني أشعر بالأبوة تجاه (يسرا) كما شعرت بها من قبل تجاه (محسن محيي الدين) ..
 ليست الأبوة تماماً ، ولكنه شعور بالمسئولية المقترنة بالحب . أتضايق جداً عندما يُقال ماذا قدمت الأجيال الجديدة .. لا روائي منذ نجيب محفوظ ، ولا مغنية منذ أم كلثوم ، ولا مخرج منذ فلان أو علان . هذا غير صحيح .. وإن كان صحيحاً فاللوم على نجيب محفوظ وأم كلثوم ، وإذا لم يكن هناك صلاح أبو سيف جديد أو توفيق صالح جديد فأجيالنا قد فشلت إذن .
تعبت جداً .. 12 أسبوع تصوير ، وملايين صُرفت ، ولكنه إرهاق لذيذ جداً .. الأشد إرهاقاً كان التمثيل  : تمثيل دوري في الفيلم ؛ كما أنني قمتُ بالغناء أيضاً .. كان (يسري نصر الله) وراء الكاميرا وأنا أمامها في معركة بكل معنى الكلمة . لا أستطيع أن أمثل وأخرج في نفس الوقت ، ولكن كان لابد من ذلك .. الفيلم كله عن المستحيل .. المستحيل في صور "
أما عن فيلمه الرابع والأخير في أفلام سيرته الذاتية : (إسكندرية .. نيويورك) فلن أثرثر بخصوصه كثيراً ها هنا لأني قد خصصت له مقالاً مستقلاً ، وذلك لأني أعتبره أروع أفلام سيرته الذاتية بكل ما تحمله الكلمة من معاني .. لكني فقط أقول أنه في هذا الفيلم قد استكمل الحلقة المفقودة ، والتي فقدها المُشاهد في الأفلام الثلاثة السابقة .. وهي : فترة دراسته بكلية فيكتوريا وما تعرض له من مصاعب وأزمات ، وعرض قصة حبه كذلك .
الإسكندرية عند (شاهين) رمز .. يصورها في أفلامه كحلم جميل .. تكتمل في وجوده أركان التسامح والجمال والنور والسعادة .
* * * *

Tuesday, 24 January 2017

أيدولوجيات (يوسف شاهين)، ومنهجه في السينما



بقلم: أحمد صبري غباشي

في القسم الأول سأتحدث عن اتجاهات (يوسف شاهين) الفكرية وأيدولوجياته ومنهجه في السينما .. كي أضع أساساً سليماً يجعل حديثي في القسمين التاليين واضحاً وسهلاً ..

مرحلة الازدهار الكاذبة : فبعدما درس التمثيل والإخراج في كلية (فيكتوريا) في الولايات المتحدة الأمريكية وعاد إلى مصر كي يبحث عن فرصة يبدأ بها مشواره في السينما عام 1950 .. لم يلقَ منتجاً واحداً وقتها يقتنع به وبالسيناريو الذي كتبه لفيلم أراد أن يبدأ عمله به هو (ابن النيل) ، ولكن رشحه المصور الإيطالي (أورفانيللي) لإحدى شركات الإنتاج بعد اعتذار أحد كبار المخرجين ، فوافقت هذه الشركة وقتها فقط لضآلة أجره ، وطلبت منه أن يقدم عملاً آخر غير (ابن النيل) .. فقدم قصة فيلم (بابا أمين) وعمره تقريباً 24 عام ، ومن هنا بدأ مشوار (شاهين) التاريخي والذي يقترب الآن من ستين عاماً في عمر السينما ..
 حينها كانت السينما – كما وصف النقاد – تمر بمرحلة ازدهار كاذبة بعد الحرب العالمية الثانية .. لكنه جاء وقدم (بابا أمين) فيلماً مختلفاً في الشكل والمضمون ؛ استطاع عن طريقه أن يبرز قدراته كمخرج . كان الفيلم اجتماعياً يبتعد كل البعد عن أي مغزى أو إسقاطة سياسية .. فقد جاء المخرج الشاب من الولايات المتحدة إلى مصر على غير دراية بالواقع السياسي المصري .. وظل هكذا بدون وعي سياسي حتى أخرج رائعته (الأرض) عام 1970 ، وذلك باعترافه هو شخصياً .
وعيه السياسي : - تجلى وعيه السياسي الذي كان غائباً بوضوح في الكثير من أفلامه التي ظهرت بعد (الأرض) .. مثل (الاختيار) ، و(العصفور) ، و(عودة الابن الضال) .. وقد فتش في أفلامه الأربعة هذه تحديداً عن أسباب نكسة 67 وأوضح تأثره الشديد بها ..
 فـ في (الأرض) تجلت الروعة كاملة عندما ناقش الفكرة نفسها مجردة .. فكرة تمسك الفلاح بأرضه واستبساله واستماتته في الدفاع عنها ونيل حقه ، ومن المؤكد أننا لا ننسى المشهد الخالد الذي أداه (محمود المليجي) ببراعة في نهاية الفيلم .. عندما لم يمنعه القهر السياسي وجذبه بحبل ربطوا طرفه في جسده والطرف الآخر في خيل الحكومة الذي يعدو كي يبعدوه عن أرضه – لم يمنعه هذا من التشبث بزرعه ومن غرس أصابعه في أرضه على الرغم من جسده المسحوب بعنف .. وامتزجت الدماء على يديه بطين الأرض في مشهد معبر رائع !
 وعن فيلم (الاختيار) قال (شاهين) : " إنه المواجهة المباشرة مع الهزيمة ، والطرح الواضح لمسئولية المثقفين عن هذه الهزيمة ، ومسئولية المجتمع ككل "
 أما فيلم (العصفور) فقد حظى بنصيب وافر من الجرأة ، وكان محملاً بمضامين فكرية مختلفة كلها تتمركز حول غضب الشعب من المؤسسات الحكومية المرتشية المخربة بعد النكسة .. وقد تم منع عرض الفيلم إلى ما بعد حرب أكتوبر مما أصاب (شاهين) ببعض اليأس ، وبدأت تدور في ذهنه فكرة فيلمه المميز (عودة الابن الضال) .
وعن (عودة الابن الضال) تفيد الناقدة (سعاد شوقي) بأن البحث المتواصل عن أسباب هزيمتنا في نكسة 677 قد استمر في هذا الفيلم عن طريق طرحه لأفكار كثيرة تتشعب لمستويات شتى .. أفكار كلها تدور حول ضرورة العلم ، وتحقيق الحلم ، والاغتصاب ، والطمع ، وحب المال ، والإيمان بدور الشباب ، وأهمية البناء ، والثورة على المغتصب ، والأمل في المستقبل ..
 أفكار من العيار الثقيل استطاع أن يجسدها من خلال شخصيات الفيلم العميقة وصراعاتها المختلفة ، ومن خلال تقنيات عالية على مستوى المكان والتكوينات والتشكيل الدرامي .
الصراع الاجتماعي والنفسي : -  الصراع الطبقي ثابت في أفلام كثيرة له كجزء مهم جداً من واقع مصر الاجتماعي ، والذي يستخدمه ليضيف بعداً نفسياً في تركيبات شخصياته . وكرهه هو شخصياً للطبقة البرجوازية واضح كأقصى ما يكون في معظم أفلامه .. دوماً يسخر من هذه الطبقة مبرزاً عيوبها وبشاعتها .
أما صفة التسامح والتعايش بين الأديان فقد أثبتت وجودها في سينما (شاهين) بقوة .. ونجدها واضحة في (الناصر صلاح الدين) إذا نظرنا لعلاقته الطيبة بـ(عيسى العوام) المسيحي والذي كان يفترض أنه من أخص جنود (صلاح الدين) ، وكذلك في فيلم (إسكندرية ليه؟) إذا لحظنا العلاقة الوطيدة التي تجمع بين (محسن) المسلم و(يحيى) المسيحي و(ديفيد) اليهودي بغض النظر عن اختلاف الديانات .. وكان هذا بالفعل جزء من واقع مصر الاجتماعي في تلك الفترة .
غاص (شاهين) في النفس البشرية وشغله تقديم نماذج غريبة على المستوى النفسي .. فقدم شخصيات مركبة في أغلب أعماله .. مثل (قناوي) في (باب الحديد) ، و(صلاح الدين) ، و(ريتشارد قلب الأسد) ، و(عوكا) في (اليوم السادس) ... الخ
الإغراق في المحلية هو الطريق للعالمية : -  ومن أهم ما يُحسب لـ(يوسف شاهين) – على مدار تاريخه الفني – من وجهة نظري هو أنه قد رسّخ مبدأ : "الإغراق في المحلية هو الطريق للعالمية" .. فهو على الرغم من عشقه لمختلف الفنون العالمية – من سينما ومسرح وأدب وموسيقى - وتأثره بها على المستوى الشخصي .. إلا أنه لم يُسخّر مسيرته الفنية كوسيلة للتعبير عن انبهاره بالغرب وفنونه كما يفعل الكثير من المخرجين ، ولكن على العكس .. لقد أغرق (شاهين) في المحلية .. فحملت جميع أفلامه روح مصر خاصة والعرب عامة .. بواقعها السياسي وقضاياها الاجتماعية والفكرية والفنية .. مُعلياً من قيمتها حيناً ، ومبرزاً سلبياتها حيناً آخر ؛ مع الافتخار في كل الحالات بالانتماء لها – على الرغم من أيدولوجيته المعارِضة للحكومة - ..
 حتى لو ألصق به البعض تهمة (الخواجة) كما هو شائع ، فيكفي أنه قد ارتقى بمصر وبفنها السينمائي إلى مصاف العالمية مهما اختلفنا معه بعد ذلك .. لكنه على كل حال لم يكن من مرضى عقدة الخواجة الذين يسعون بكافة الأشكال لبروزة أمريكا ومناصريها .. بل على العكس إنه يحقر دوماً هذا الكيان ويقلل من قيمته .. تم هذا أكثر من مرة في أفلامه .. وقد سبق أن صور أمريكا من قبل في فيلمه (إسكندرية ليه؟) كامرأة ساقطة عندما صبغ وجه تمثال الحرية بمساحيق التجميل الفجة وصنع فلقة بين أسنان وجه التمثال وألصق بالوجه ابتسامة سخرية بشعة ، ووصف أمريكا نفسها من قبل بأنها عاهرة ..
 وفي فيلم (المصير) نقل ومضات من تاريخ فرنسا المليء بالجهل والظلمات .. في حين صوّر مصر بلداً للنور والمعرفة .. وقد رسخ أيضاً هذا المفهوم أكثر من مرة في أفلام أخرى كـ(المهاجر) ، و(سكوت ح نصور) مثلاً ..
 وعلى الرغم من هذا فقد وصل للعالمية ، واحتفى الغرب ذاته بفنه وأعماله .
أكثر ما يثير سخطي وتقززي في سينما (يوسف شاهين) هي الإشارات غير القليلة إلى العلاقات المثلية الشاذة ، وتجلى هذا واضحاً في أفلام سيرته الذاتية تحديداً (إسكندرية ليه ؟) ، و(حدوتة مصرية) ، و(إسكندرية كمان وكمان) ، و(إسكندرية .. نيويورك) .
هذا ويرفض (شاهين) تماماً مبدأ البساطة في تقديم أعماله ، بل ويعتبرها – حسب تعبيره – إهانة للعقل .. وربما أتبنى وجهة نظر مغايرة لهذا الكلام ؛ لكن لكلٍ منهجه ورؤيته الفنية الخاصة على كل حال .
* * * *
" لا تجعلوا السيرة الذاتية سجناً يوضع فيه الفيلم ولا يُرى إلا من خلاله .. نعم هي سيرتي الذاتية ، ولكن كل فيلم من أفلام كل مخرج هو على نحوٍ ما سيرة ذاتية . سيرة اللحظة التي صور فيها المشهد ، وانعكاس للحالة أثناء التصوير "
(يوسف شاهين)

Monday, 23 January 2017

سينما #يوسف_شاهين - المقدّمة




بما إننا داخلين على ذكرى ميلاد #يوسف_شاهين ، فأنا بعيد نشر دراسة سينمائية قديمة كتبتها من 11 سنة عن أفلامه . مخصوص لصفحة السينما - Cinema

(سينما يوسف شاهين)


لاشك أن (إبهار الفكرة والتناول) الذي يُخرج في النهاية صورة ذكية متقنة ومزينة ؛ أروع كثيراً من (إبهار الصورة) الذي يُخرج صورة ممتعة حقاً لكنها سطحية ومبهرجة الزينة ..

وهذا هو ما فطن إليه (يوسف شاهين) الذي قدم للجماهير رائعته (الناصر صلاح الدين) وروائع أخرى كثيرة تعتز بها السينما المصرية والعربية ، وتعرفها السينما العالمية حتى الآن ..
 ربما لهذا ينتظر الكل فيلمه الجديد (هي فوضى) الذي سيصدر في العيد بإذن الله ..
 الكل ؟ .. فلنصحح العبارة ونستبدل كلمة (الكل) بكلمة (الكثيرين) فسيكون هذا أدق .. إن كل الجمهور المصري لم يتفق على (يوسف شاهين) .. فأكثر من نصف هذا الجمهور لا يتابعه ولا يفضل أفلامه .. وهنا نلمس حقيقة واقعة : أن هذا المخرج المبدع مظلوم في جمهوره .. ربما لهذا له أفلامٌ تفشل ولا تلقى رواجاً كبيراً على الرغم من قيمتها الفنية العالية ، وعلى الرغم من عدم نمطية (يوسف شاهين) نفسه كمخرج ..
 وبما أن أفلامه قد حققت نجاحاً عالمياً كبيراً كُرم على إثره في الكثير من المحافل والمهرجانات السينمائية العالمية ؛ إذن فلا يمكننا أن نصفه بأنه مخرج فاشل .. ربما المشكلة تكون في الوقت الذي تصدر فيه أفلامه هنا في مصر وفي الجمهور الذي يشاهدها .. فمن يشاهد أفلام (شاهين) يجب أن يكون ذا عقلية خاصة ومستوى معين من الثقافة يسمح له باستيعاب المحتوى السياسي ، أو الاجتماعي ، أو الاقتصادي ، أو الفلسفي ، أو النفسي – أو ربما كل هذه المحتويات مجتمعة - في فيلم من أفلامه .

قال (شاهين) : " شخصياتي بيمثلوا أحسن من اللي كانوا بيمثلوه مع أي حد .. محمود المليجي فضل 30 سنة بيضرب الناس طب ازاي عرفتوا إنه ممثل كويس ؟! لما اشتغل (الأرض) ..
 في وقت معين ربنا بعتلي حد زي محسن محيي الدين كان حساس وهايل وكان أحسن مني ، كان عنده حتة الحساسية اللي موجودة في العنين فكان فيه تواصل بيني وبينه . كنت لما أقول ستوب وأبصله كان يقوللي : خلاص عرفت ، ونعيد الشوت ، ويعمله كويس جداً ؛ مكنتش بحتاج أقوله أنا عايز إيه أو الغلط فين .. بمجرد ما أبصله يفهم . أنا باخد موهبة وأوجهها ، أنا مبخلقش موهبة .. عشان كده بالصبر أقدر أطلع كل حاجة جواهم "



من الأمور الملحوظة جداً أن مجموعة كبيرة من أشهر نجوم التمثيل والسينما في مصر قد عملوا مع (شاهين) – بدءً من عملاق المسرح العربي (يوسف وهبي) وحتى الممثل الشاب (أحمد يحيى) - ؛ بل إنه قد استطاع بخبرته وذكائه أن يفجر فيهم – أو في معظمهم - طاقات تمثيلية رهيبة ما كانت لتُكتَشَف لولا عملهم معه .. ربما لهذا السبب يحلم معظم العاملين بالوسط السينمائي بالعمل مع عملاق الإخراج هذا ، ويعتبرون أنهم قد حققوا أقصى أحلامهم لو ضمهم يوماً لأحد أعماله .. لدرجة جعلت الأديب (أحمد خالد توفيق) يُصدر تعبيراً ساخراً موفقاً – كعادته – في هذا الصدد حيث قال :

" .. وحتى الكومبارس الذي يقدم للبطلة كوب ماء في أحد أفلام (يوسف شاهين) يعتبر نفسه أستاذاً من أساتذة التمثيل ، ويقول في وقار وغموض : " أفضل أن يرى الناس العمل ليحكموا بدلاً من أن أتكلم عنه ". وغدا من التقليدي في كلام أي ممثل أن يحكي عن (تجربة التطهير أو الميلاد الجديد) التي اجتازها بالعمل مع شاهين "

ولأن سينما (يوسف شاهين) تُعدّ غامضة بالنسبة للكثيرين ؛ فأنا أحاول في هذه الدراسة القصيرة المتواضعة أن أقترب أكثر منها وأعرضها لكل من يهتم بالسينما مقسماً حديثي بشأنها إلى ثلاثة أقسام ...

- أيدولوجيات يوسف شاهين واتجاهاته الفكرية ، ومنهجه في السينما .
- أفلام سيرته الذاتية .
- أدواته ومفرداته السينمائية الخاصة .

يتبع ...
 أحمد صبري غباشي

تعرف إزاي #عمر_الشريف وصل للعالمية؟

تعرف إزاي #عمر_الشريف وصل للعالمية؟





 كانوا بيجهّزوا لفيلم لورانس العرب في هوليود وعاوزين ممثل عربي يقوم بالدور.. وكان المُرشّح للدور رشدي أباظة أصلاً.. فعرضوا عليه وطلبوا منه يعمل كاستينج، فاستكبر إنه يعمل كاستينج على أساس إنه نجم كبير في بلده وكده.. فقالهم على حل وسط.. قالهم أنا بصوّر حاليًا فيلم في مصر.. ممكن تيجوا تشوفوا وتحضروا التصوير بنفسكم، وده يكون بديل عن الكاستينج.. وافقوا..
الفيلم كان: في بيتنا رجل.. جم حضروا التصوير.. شافوا عمر الشريف.. عجبهم.. خدوه.
 واتغيرت حياته من اللحظة دي للأبد، وبقى نجم عالمي.

Saturday, 21 January 2017

حكاية ممشوق وغاوية








حكاية ممشوق وغاوية
جريمةُ حبٍ ضدّ الـ (مَكتُوب)

* * * 
بقلم: أحمد صبري غباشي


كانت (غاوية) ملكةُ البلادِ ، وقد أبلغَها وزيرُها بنبأ جريمةِ القتلِ التي وقعَت في الليلةِ الماضية ، وطلبَ منها أن تشهدَ اليوم تنفيذَ حُكمِ الإعدام طبقاً لقوانين البلاد .
ولما سألته عن تفاصيلِ الأمرِ ، أخبرها أنّ :


(ممشوق) الشاب كان في حضرةِ (مكتوب) العرّاف العجوز الذي يعرفُه كلُ أهلِ المدينة ، ويعرفون جيداً أن نبوءاته قلّما تخطئ .. كان الشابُ جالساً بين يدي العرّاف ، وبينهما البللورةُ السحرية .. يتأملها العجوز ، ويقرأ له فيها مستقبله .

- "قد تتزوجُ يا ولَدي قبل أن تبلغَ من عمرِك الخامسةً والثلاثين"
- "فعلاً ؟ ولكن هذه مخاطرةٌ كبيرة !"


(ممشوق) الذي لم يتم عِقده الثالث بعد كان قد نسي أن يزيلَ أثرَ أحمرِ الشفاه من رقبته ؛ بعد أن أغرقته ابنةُ الحطّابِ بالقبلاتِ في مواضع شتّى من جسده ، فمَسَحَهُ بيدِه بسرعة لأنه انزعج عندما انتبهَ العرّافُ العجوزُ (مكتوب) لهذا . لكنه انزعج أكثر من نبوئته التي يلوّح له فيها بكابوسِ الزواج ..



- "لا يا ولدي .. لقد أخطأتُ القراءةَ .. قد تتزوجُ قبل أن تبلغَ من عمرك الثالثةَ والثلاثين."
- "فعلاً ؟ هل هذه دعابةٌ أيها العجوز؟"
(ممشوق) الفتيّ الممتلئ بالحياة ، ضاقَ صدره .. صَدرُه المَحشو بقصص غرامٍ تفوق عدداً حبّات العقد الملتف حول رقبة هذا العرّاف العجوز . مَدّ العجوز يده على كتفِ (ممشوق) ليمسك بشعرةٍ طويلةٍ كانت على كتف الشاب نائمةٍ تسكن في دلالها الأنثوي . أمسكها ووضعها أمام وجهه في لومٍ دون أن يعلّق .. ثم نظر مرةً أخرى للبللورة وقال :


- "اغفر لي يا ولدي فقد أخطأتُ أيضاً هذه المرة .. العتب على النظر .. الأكيد أنك ستتزوجُ قبل أن تبلغ من عمرك الثلاثيـ.."
لم تكتمل العِبارة لأن (ممشوق) كان قد هوى بالبللورة السحرية على رأسِ (مكتوب) العرّاف العجوز الذي قلّما يخطئ ، فسقط ميتاً في سلامٍ بلا كلام . وقد فعل الشاب هذا لأنه لم يحتمل أن يسمع هذا النبأ المروّع . زواج قبل الثلاثين ؟ أي بؤسٍ هذا !


وأنهى الوزيرُ حكايتَه لملكتِه (غاوية) بأن قال لها : 
- "وهكذا يا مولاتي ، قَبضنا عليه من أجلِ القصاصِ ، وتنفيذِ حكمِنا العادل".
ولما أقبلت الملكةُ بكلِ بهائها ، وجَمالها في ساحةِ التنفيذ ، وجدت الحرّاس يقتادون (ممشوق) سيراً إلى مكانه حيث يُشنق .
لاحظَت أنه كان يمشي بينهم في مرحٍ كأنه في نزهة . كأنما إعدامُه أخفُ وطأةً عليهِ من الزواجِ قبل سن الثلاثين .. لاحظَت هذا فتعجّبت ، وسألت نفسها "هل هو مجنون؟" .. عندما اقتربَ تبيّنَت شيئاً آخر لم يكن وزيرُها أميناً في نقلِه .. رأت (غاوية) أن (ممشوق) كان شديدَ الوسامةِ ، ذو جاذبيةٍ كاسحةٍ .. فرفعت حاجبها في إعجابٍ متعالٍ ..


وهكذا اقتربَ حتى وصلَ لمكانِهِ واقفاً على كرسيّ ، وأحدُ الحرّاس يستعدُ لـ لفّ الحبلِ حولَ رقبتِه كي يُنهيَ بذلك تاريخه الحافلَ في عشق الصبايا .. كان هذا عندما وقعَ بصرهُ فجأةً على (غاوية) ، فضَحك بشغفٍ بالغٍ لأن جمالها قد ملأ عينيه .. 



ظلَّ ينظرُ لها ، وتنظرُ له . الجميع في انتظارِ تصديقِ الملكةِ على تنفيذِ الحُكم . الوزير يرمق المشهد من بعيدٍ في تعجب ويترحّم على العرّاف العجوز (مكتوب) . نصف أنظار الناس تتجه صوب (ممشوق) ، والنصف الآخر صوب (غاوية) ..
تنظرُ له ، وينظرُ لها .. ينظرُ لها ، وتنظرُ له .. وينظرُ الناسُ لهما .
ظلاّ ينظران لبعضهما لسنواتٍ طويلةٍ قبل تنفيذِ الحُكم .. وكانت هي الحَبل .


* * * *


أحمد صبري غباشي

Saturday, 7 January 2017

ليس حسدًا - د. أحمد خالد توفيق

ليس حسدًا




بقلم : د. أحمد خالد توفيق


(تقديم للمجموعة القصصية : نادماً خرج القط! )
2007

ليس من المعتاد أن يقدم كاتب قصصي مجموعة قصصية لكاتب قصصي آخر، وإنما الأقرب للعرف أن يقدمها ناقد أدبي، غير أنني أعتبر (أحمد صبري غباشي) بمثابة ابن لي لا أقدر على رفض طلب له. وهذا لا يعني قطعًا أن هذه (الأبوة) أثرت على رأيي في هذه المجموعة القصصية، فهناك أعمال أدبية لأبناء أعزاء آخرين، لكني لا أجد القدرة على استكمالها ولا يمكن أن تقنعني قوة على وجه الأرض بكتابة مقدمة لها. فقط أبتسم وأقول متظاهرًا بالحكمة: "دعنا نر العمل التالي لك .. ". لكني مع أحمد وجدت نفسي أنهي المجموعة بسرعة البرق ثم أعيد قراءتها مرتين. إخراج القصص وعناوينها احترافي للغاية حتى أنه بوسعك أن تنسى كاتبها وتشعر بأنك تقرأ مجموعة قصصية لأديب راسخ من الستينات. كل قصة تحوي مغامرة تجريبية ما حتى تشعر بأنه ينهي القصة وقد خارت قواه تمامًا. من السهل والممتع على المرء أن يكون قاسيًا وأن يتصيد الأخطاء على غرار (لماذا نادمًا خرج القط ، وليس خرج القط نادمًا ؟.. إن هذا تحذلق .. الخ).. لكن من الصعب أن تتجرد وأن تنظر لهذه المجموعة كما هي فعلاً: مجموعة من القصص الممتعة المهمومة بالبشر ولا يكف صاحبها عن التجريب.



أحمد صبري لا يخفي إعجابه الشديد بيوسف إدريس، وفي هذا أجد أنه وضع إعجابه في المكان الصحيح تمامًا. ومن الغريب أنني ما زلت مصرًا على أنه يشبه يوسف إدريس في شبابه فعلاً حتى على مستوى ملامح الوجه. هل تأثر به حتى صار يشبهه أم تأثر به لأنه يشبهه ؟.. لا أعرف حقًا. 

إن هذا الأديب الشاب يلعب بعدة أوراق رابحة لا شك فيها: الورقة الأولى هي حبه الشديد للأدب والكلمة المكتوبة. هذا الحب أوشك أن يصير هاجسًا وقد أقلقني عليه في فترة من الفترات. تأمل عنوان المجموعة (نادمًا خرج القط).. هذه التركيبة اللغوية التي تضع الحال في بداية الكلام، مع الغموض المتعمد في المعنى. إنها تحمل تلك الرائحة التي لا توصف ولا يمكن التعبير عنها بكلمات والتي تجعل الأدب يختلف عن كلام الصحف والمحاورات اليومية. الورقة الثانية هي سنه الصغيرة جدًا والتي تثير ذهول كل من يقرأ عملاً من أعماله. إن في انتظاره رصيدًا هائلاً من الأعوام والخبرات والوجوه التي سيقابلها.. سوف يصطدم بكثيرين ويحب كثيرين، ويسافر لأماكن لم نرها ويقرأ كتبًا لم نسمع عنها. هذا يعني أن الحكم عليه لم يكتمل بعد. الورقة الثالثة هي كمية هائلة من الأدينوسين ثلاثي الفوسفات في خلاياه .. أي أنه يملك الكثير من الحماس والاندفاع والطاقة وهي طاقة قادرة على تحريك الجبال لو خرجت كاملة. يبدو أنني أردد مقاطع كاملة من قصيدة (حسد) للشاعر السوفييتي العظيم (إيفتوشنكو)، لكني أحاول أن أضعك في الصورة لا أكثر.





في هذه المجموعة يلعب أحمد على السلم الموسيقي من أوله إلى آخره .. هناك خواطر منتحر في (وداعًا) وهناك مصير الرجل المتحضر في مجتمع غوغائي بطبعه.. ذلك الرجل الذي سوف ينتظر إلى الأبد في قصة (متحضر).. هناك اللعبة العبثية السيزيفية في (مسرح كبير)، وهناك الرعب الميتافيزيقي الذي أثار رجفتي أنا نفسي في (نادمًا خرج القط)، وهناك الجو الأسطوري الملحمي في (زنوبيا)، وهناك القصة القصيرة المدرسية محكمة التكوين مثل (أبيع الملابس). بل إن هناك قصة بدأتها أنا على سبيل المسابقة هي (يوم خاص) وتركتها مفتوحة على سبيل التحدي الصعب الذي لا أعرف أنا نفسي كيف استكمله، لكنه استكملها لتكون قصة جيدة جدًا. عامة سوف نجد أن الحياة تثير حيرة أحمد ورعبه.. أبطاله غرباء متفردون يعانون وحدة قاتلة وسط مجتمع لا يمكن فهمه ولغز كوني مفجع.

برغم صغر سنه فإن قراءاته العديدة منحته عمق تجربة لا بأس به، ولسوف تتدخل السنون لتعميق هذه التجربة أكثر فأكثر. أقول هذا وأعرف أن اسمه سيسطع بقوة في الحياة الأدبية بعد أعوام. لم أطلق هذه النبوءة من قبل إلا مع اثنين هما أحمد العايدي – ونجاحه لا يحتاج إلى كلمات - وأحمد عبد المولى الذي اختفى تمامًا فلا أعرف أرضًا له، والذنب ذنبه طبعًا وليس ذنب نبوءتي !

أرجو أن يبرهن أحمد صبري بعد أعوام على أنني بعيد النظر، وأن يحفظ ماء وجهي أمام من يقرءون هذه السطور الآن، وهو قادر على ذلك بالتأكيد !

د. أحمد خالد توفيق

Friday, 6 January 2017




"الوحدة :

هي أن تكون بين أفراد عائلتك الودودين ، بينما ذهنك مشغولٌ بمحادثة إلكترونية مع شخص قد لا يعبأ في الحقيقة بخبر موتك !”

Monday, 2 January 2017

يوسف إدريس - ينتزعك .. لتقرأ.


نحن في زمن الرواية .. بات هذا مؤكداً ..
لو كنت ممن يكتبون القصة، ستذهب بقصصك في زيارةٍ خاصةٍ لصديق من القراء المخضرمين ذوي الخبرة، لتجسّ النبض.. سيقابلك بنصف حفاوة وأنت تحدثه عن قصصك، بينما يطالع كتاباً في يده..
ستسأله عن رأيه. سينظر لك بعينيه اللتين ينقلهما بينك وبين صفحات الكتاب في يده.. ويخبرك أن الناس لم تعد تهتم كما السابق بفن القصة القصيرة، ويضيف: "نحن في زمن الرواية".
ستهز رأسك موافقاً إياه على عجل لتتخطى الحقيقة الصادمة، وتردف أنك بذلت مجهوداً كبيراً في تقنيات قصصك وألعاب السرد والقصّ كي تجعلها جذابة.. 
سيطل برأسه من خلف الكتاب – الذي من الواضح أنه لا يقرؤه للمرة الأولى لأنه لا يشعر بضيق للمقاطعة – ويقول لك: "يا عزيزي كل هذا جميل.. لكن الناس تنجذب أكثر هذه الأيام إلى فن الرواية، ولا أدري سبباً محدداً لهذا.. ربما لأن دولة الشعر سقطت، أو لأن القصة القصيرة غاب فرسانها.. أو بسبب –وهذا هو الأرجح– أن الناس في أيامنا هذه بحاجة إلى أن (تعيش في الوهم).. تهرب إلى عوالم أخرى من واقعها التي تحياه.. صدقني، نحن في زمن الرواية!"
تسمع كلماته، وتهز رأسك في أسى.. ولكن مهلاً!.. لماذا يخبرك صديقك بهذا بينما الكتاب الذي يقرؤه الآن في يده هو: مجموعة قصصية لـ يوسف إدريس ؟


* * * *


من هو يوسف إدريس؟
يوسف إدريس هو كتلة الصخب والثورة والتغيير التي تفصل بين زمانين في الأدب العربي الحديث..
هو الزلزال الذي هزّ رتابة الوسط الثقافي المصري، وربما العربي، ليحرّض المبدعين : "هيا .. أبدعوا .. جربوا .. غامِروا ."
ولهذا فإن صديقك المخضرم لم يكن يخدعك حين كان يخبرك أننا في زمن الرواية ، بينما هو نفسه يمسك كتاباً (قصصياً) لـ إدريس .. لأن يوسف إدريس خارج هذه الحسابات .. حين تقرأ له وتغرق في قصصه ومفاهيمه وعالمه ، تدرك أن هذا فنان يفرض القوانين ويتخطى حاجز الزمن ليعيش حتى وإن مات !
ثمة نوعان من الأدباء :
• أدباء يلتزمون بالقواعد لينجحوا .
• وآخرون بلغوا من النجاح مبلغاً جعلهم هم أنفسهم القواعد .. هم القوانين ذاتها .
ويوسف إدريس ينتمي لهذا النوع الأخير .



ربما من سوء – أو حسن – الحظ أن يوسف إدريس لم يمتلك حساباً على الفيسبوك ، وإلا كنت ستجد عبارته الوصفية على غرار : "أنا شاب اتخلق عشان يعمل قلق" ..
عبارة سوقية نوعاً لكنها تعبر بشكلٍ ما عن حالة يوسف إدريس .. فهو بوجوده واقتحامه لعالم الأدب قد غيّر خريطة القصة القصيرة وطوّر من أساليبها ومفهومها ذاته ، ليصير واحداً من أعظم من يمارسون هذا الفن في العالم كله . ويصير اسمه مع (تشيكوف) و(جي دي موباسان) جنباً إلى جنب .
خاض في حياته كثيراً من المعارك الفكرية والثقافية ، ولهذا تتضارب الأقاويل بخصوص شخصيته .. لكن لا اختلاف على أنه يمثل علامةً فارقة في الأدب العربي .. واسماً بارزاً في الأدب العالمي ، فقد كان من الذين أغرقوا في المحلية حتى وصلوا للعالمية .. خرج أدبه وظهرت كتاباته مصريةً خالصة .



وعن رؤيته في فن القصة .. فقد قسّمَ كتابة القصة إلى ثلاثة أقسام :


- قصص النميمة : أو ما يشبه الحواديت التي تعتمد على الخوض في سِيَر الشخوص وحيواتهم ، أو ما أسميه : أدب التلصص من ثقب الباب .. لكنه لم يحب هذا اللون من ألوان الكتابة .
- القصة الصحفية : وهدفها التسلسل في المقام الأول كي يظل القارئ متابعاً لها حتى النهاية .. وهو يعتبرها فناً صحفياً .
- القصة الفنية : وهي القسم الثالث الذي مارسه يوسف إدريس وقدّمه .. فقد كان يكتب القصة كي تتم قراءتها باستمرار لا مرة واحدة ، فيحرص في بنائها على أن تجذبك لقرائتها من جديد .. وأن تكون لكل قصة موسيقاها ، ولغتها ، وطابعها الخاص . يقدم فيها – حسب تعبيره – : الفن المصفّى .



أرى أن قصصه تشبه إلى حدٍ كبير حياته الصاخبة ، وتكشف لك في الوقت نفسه صخب النفس البشرية ..
فإذا كان نجيب محفوظ في رواياته يرصد طبائع النفس البشرية على المدى الطويل وتغيراتها .. فإن يوسف إدريس يجيد تشريح النفوس عن طريق الإمساك بـ لحظة ، أو انفعال ، أو موقف ما يتعرض له البطل في قصصه .. حينها تبهرك قدرته على الغوص العميق إلى الداخل . وكما قال : "ليت الانسان مثل الرياضيات او علوم الهندسة تفسره بضع نظريات..ذلك الكائن الذى لا تزيدنا معرفتنا به الا تصعيباً لمهمة فهمه"



في شخوصه تجد غالباً الصراع ، ليس مع الذات وحسب ، ولكن صراع في تحديد موقفهم من الآخَر أيضاً .. سواء كان هذا (الآخَر) مغايراً في الفكر ، كما في قصة سنوبزم .. أو مغايراً في البيئة ، كما في قصته : النداهة ، مثلاً .


لا تجد في قصصه تشريحاً للنفس البشرية ، أو للشخصية المصرية فقط .. وإنما يقدم في كثير من الأحيان نقداً لاذعاً للمجتمع . تجد هذا مثلاً في أعمال له كـ (الحرام – العيب – النداهة) .. أرى في هذه الأعمال الثلاثة خيطاً يربط بينها رغم اختلاف السياق والأحداث .. فهو من خلالها يعرض زيف مجتمع يلهج لسانه بترديد المبادئ والقيم فيبدو نظيفاً برّاقاً من الخارج ، لكنه في حقيقة الأمر لا يتورع عن القضاء على كل ما يعترض طريقه في سبيل تحقيق غايته أياً كانت الوسيلة .


مثال آخر نجده في قصة (سنوبزم) التي تعرض مشهد تحرش رجل ما بامرأة ضعيفة في مواصلة عامة ، في أثناء تواجد شخص مثقف يراقب الموقف ويرى المرأة تستغيث بالحاضرين الذين يتركون الرجل ويلقون باللوم عليها هي نفسها .. نعم .. أعرف فيم تفكر الآن ! .. أجل ، أنت محق .. هذا شبيه بحادثة (العباية أم كباسين) التي تابعتها مصر كلها في ميدان التحرير .. الفتاة التي عرّاها العسكر ، وقاموا بضربها وسحلها بوحشية ، فقط كي يلومها الناس على تواجدها هناك وعلى ارتدائها العباءة على اللحم ..
كتب يوسف إدريس قصته تلك قبل هذا الحدث بعشرات الأعوام .. نعم يا عزيزي .. هذا هو الأدب الذي يصلح لكل زمان ومكان .



ومسرحياً ، فقد أضاف الكثير للمسرح المصري .. ليس بكتاباته وحسب ، ولكن بالمنهج الجديد الذي طرحه ، ودعا له ، وقام بتطبيقه بالفعل في مسرحياته .. ليصبح المسرح المصري محط أنظار العالم كله ، كما حدث مع أشهر أعماله المسرحية (الفرافير) التي قدمت بلغات مختلفة بواسطة فِرق أجنبية عدة في بلدان أوروبا .


يوسف إدريس كـ كاتب مسرحي في بداياته تأثر تأثراً شديداً بالقصة ، وكان عنصر القصّ غلاباً في طريقته المسرحية .. وكما قال هو ، فإن الوسيلة الوحيدة لتعلم كتابة المسرح ليست موجودة في الكتب ، ولكن بالممارسة .. بدأ يتعلم مع مرور الوقت وكثرة التجارب ، حتى أتقن فكرة (الحفر إلى أعمق) وهو يبحث عن سر الدراما .. حتى صار متمكناً من أدواته المسرحية ..
الكتابة للمسرح بالمناسبة هي أصعب أنواع الكتابة ..
وكان يرى أن المسرح يجب أن يكون مصرياً عربياً كي يؤثر في الناس .
مسرحياته بعيدة عن الشكل التقليدي المعهود لبناء المسرحية (بداية – عقدة – ذروة – نهاية) .. ولا تعتمد على الحدوتة وتشابك الأحداث .. لكنه استلهم منهجه المسرحي من ما يسمى بـ مسرح (السامر) مصريّ الأصل والطابع ، والذي يعتمد على التفاعل مع الجمهور وإدخاله ضمن اللعبة المسرحية .. ورأيي أن البطل الأساسي في مسرحيات يوسف إدريس هو الحوار .. ملئ بالمشاغبة والمعاني الفلسفية التي تتميز بتماسها وقربها من عقل ووجدان المتفرج ، وليست مغرقة في الغموض والتعقيد كما نشاهد في أعمال مسرحية أخرى كثيرة .
أوصي بقراءة مسرحيته "المهزلة الأرضية" .. وطبعاً رائعته : "الفرافير" .



هذا هو الصخب الذي أراه دوماً في قصص يوسف إدريس ومسرحه .. كتاباته تحدث صخباً في نفسك وتدفعك للتساؤل والنظر حولك .
فالكتابة عنده لم تكن مجرد وسيلة للتنفيث ، وليست أيضاً لتعذيب الذات كما يفعل البعض .. وإنما كانت محاولة للفهم .. أذكر جيداً مقولة قالها في حوار تليفزيوني :
"أحياناً لما أكون عاوز أفهم حاجة .. بكتبها!"
وقال عنه د. أحمد خالد توفيق : "يوسف إدريس أهم كاتب قصة قصيرة في مصر .. وفي روسيا يعتبرونه صنواً لتشيكوف ... لا يعني هذا أن عليك أن تحبه .. لكن جرب قراءة (أرخص ليالي) و(بيت من لحم) و(لغة الآي آي) و(كلمة شرف).. يوسف إدريس يذهلني وهو الكاتب المصري الوحيد بعد نجيب محفوظ الذي يشعرني بالعجز والتضاؤل ".



ما لا يعلمه الكثيرون عن يوسف إدريس أنه كان على علاقة طيبة بالأديب الفلسطيني الرائع (غسان كنفاني) وكتب مقدمة إحدى إصداراته ، وأنه كان حريصاً على متابعة الكتاب الشباب في وقته ورعايتهم .. وقدّم للوسط الأدبي في مصر العديد من الأسماء التي لمعت فيما بعد ، لعل أبرزها الكاتب الكبير : صنع الله إبراهيم .. الذي قدمه يوسف إدريس للجمهور ، وكتب مقدمة أول إصداراته : تلك الرائحة .
وعندما سًئل في هذا الأمر قال : أنا حريص إلى أبعد الحدود على قراءة كل حرفٍ يكتبه الشبان سواء في مصر أو في العالم العربي ، وأكرر إنني تعلمت وما زلت أتعلم منهم كل يوم ، ولكن لابد من تقرير أن الكثير منهم كان رد فعل للنكسة ، وقليل جداً منهم من فهم الأصالة ، وبالتالي فالسؤال الهام هو : من سيستمر ؟ .. الاستمرار لأنه القضية رقم واحد بالنسبة إليهم ، ولذلك من الصعب الحكم على من سيظل يكتب .. أي أن الحكم على أي عمل أدبي من خلال وضعه اليوم يعد حكماً ناقصاً ."



وبالرغم من هذا فلن يحطم أحد أسنان صديقنا القارئ المخضرم الذي يصر على أننا نحيا "زمن الرواية" .. لكني كما قلتُ هناك دوماً من يقدر – ببراعته – أن يفرض القوانين .. 
لن تستطيع فرض قوانينك (القصصية) في زمن الرواية ، إلا إذا كنت يوسف إدريس .. 
أو أحد قرائه .



أحمد صبري غباشي