أجواء
(يوسف شاهين) السينمائية
3 - أدواته كمخرج، ومفرداته السينمائية
بقلم : أحمد صبري غباشي
أما
في القسم الثالث والأخير من هذه الدراسة فسنتحدث عن أدواته ومفرداته السينمائية
الخاصة ..
فلـ(يوسف
شاهين) تحديداً لغة سينمائية متفردة تخصه وحده .. تستطيع أن تميزه بها لو لم تكن
تعرف أنه هو مخرج الفيلم الذي تشاهده ..
فكما
قلتُ سلفاً في بداية هذه الدراسة أن منهجه الذي التزمه دوماً في فنه هو الإبهار
بدون خدع أو مؤثرات بصرية .. إبهار الفكرة .. إبهار التصوير ذاته وطريقة أخذ
الكادرات .. ولهذا فقد ارتبط هو نفسه ارتباطاً كبيراً بالكاميرا .
نلاحظ
كثيراً أن حركة الكاميرا في كادراته تتسم بالحيوية والحركة مما يقتل أي إحساس
بالضجر ويخلق نوعاً محبباً من التشويق حتى لو لم يكن على مستوى الحدث ذاته ، فهو
موجود في الصورة .. كما أن مجرد التقطيع عنده أيضاً له دلالات تؤثر في انطباع
المشاهد .
نأتي
أيضاً لنقطة مهمة يستحيل تجاهلها ما دمنا نتحدث عن (يوسف شاهين) : ولعه الشديد
وتأثره الواضح بالمسرح .. فقد درس التمثيل والمسرح في كلية (فيكتوريا) واشتغل
مخرجاً مسرحياً في فترة مهمة من حياته أخرج فيها بعض مسرحيات (شكسبير) وشارك
بالتمثيل فيها .. وربما ظهر في أفلامه أكثر من مرة ارتباطه الشديد بدور (هاملت) .
يظهر
تأثره بالمسرح دوماً في أسلوبه الإخراجي ؛ على الرغم من أنه إخراج للسينما وليس
المسرح .. ولكن كل من يشاهد أفلامه يلحظ في الكادر هذا أو ذاك تأثراً واضحاً
بتقنيات المسرح وعوالمه .. الكادر عنده عبارة عن لوحة فنية لابد أن تخرج متقنة
.. يهتم فيه بالإضاءة وبالزوايا ، ولابد أن يتم توزيع العناصر فيه بدقة شديدة كي
يصل المغزى المراد من مجرد طريقة أخذ كادر ، وليس عن طريق إحكام السيناريو حتى ..
من المؤكد أن معظم المتابعين يتذكرون الكادرات الخالدة في الناصر صلاح الدين ،
وبياع الخواتم ، والأرض ، وعودة الابن الضال ، والكثير من أفلامه الأخرى ..
ومن
أوضح العلامات كذلك على تأثره بالمسرح هو اهتمامه الشديد بعنصر (الأغنية)
في أفلامه .. فالأغنية عنده لابد أن تكون ذروة لحدث درامي ؛ بنهايتها نصل لشيء
جديد معين .. فتدخل الأغنية بذلك في صميم البناء الدرامي للفيلم .. ولهذا
فـ(شاهين) يقوم بتحضير أغاني أفلامه بشكل دقيق جداً وفائق العناية .. يتفق مع
الشعراء الذين يكتبون الأغاني ويوجههم في المسار الذي يريد لكلمات الأغاني أن تكون
فيه ، ويجعلهم على دراية بوظيفة الأغنية بالنسبة للسيناريو بحيث لا تقف أحداث
الفيلم كي نسمع أغنية .. لأن هذا يسبب ما يسمى بالهبوط الدرامي ويفصل المشاهد
تماماً من حالة الفيلم .. وهذه النقطة بالتحديد هي أكثر ما يثير جنوني وسخطي في
الكثير من أفلامنا القديمة .. حيث يتم بتر أحداث الفيلم بتراً لتقديم استعراض راقص
أو أغنية لا علاقة لها بأحداث الفيلم لمجرد استعراض الصوت وإمكانيات الرقص !
ولهذا
فإن (شاهين) يعتبر الأغنية سلاح خطير جداً .. وأعتقد أنه لهذا السبب ولاختياراته
الدقيقة ظهرت في أفلامه أقوى الأغاني التي عرفناها في السينما حتى الآن والتي
يرددها أغلبنا حتى لو لم نكن من متابعي الأفلام نفسها ..
فمن منا
ينسى أغنية (الأرض لو عطشانة) في فيلم (الأرض) ؟ أو أغنية (راجعين) في فيلم
(العصفور) التي أصبحت أغنية الجنود على الجبهة في يوم العبور العظيم ؟ أو أغنية (علي
صوتك) بصوت محمد منير في (المصير) ؟ أو أغاني ماجدة الرومي في (عودة الابن الضال)
؟ أو أغنية لطيفة الشهيرة (تعرف تتكلم بلدي) في (سكوت ح نصور) ؟ أو الأغنية الأكثر
من رائعة (بنت وولد) في (إسكندرية نيويورك) ؟ .. كل هذه أغاني عاشت في وجدان الشعب
المصري ولو لم يكن الجمهور نفسه على دراية بالأفلام .
ابتكار
تقنية تصوير (الثبات) : -
دوماً
كانت تواجه المشاهد مشكلة عند مشاهدة أي معركة حربية في أي فيلم تاريخي .. وهذه
المشكلة تكمن في حركة الكاميرا التي يحسها سريعة ومبتورة وفوضوية بعض الشيء ..
فينتابه شعور بالتوتر والضيق بدون وعي منه لأنه يريد أن يرى مشهداً لا يراه فعلاً
وإنما يلمحه بشكلٍ خاطف .. و(شاهين) بعبقريته الإخراجية قد قام بحل هذه المشكلة
وقدم الحل بشكلٍ راقي جداً ومُرضي وعلى مستوى فني عالي بالفعل .. فقد قام بعمل
تقنية تصوير جديدة عند تصوير مشاهد القتال في فيلم (الناصر صلاح الدين) فصنع ما
يسمى بتثبيت اللحظة وأصبحت المشاهد عبارة عن مجموعة من اللقطات الثابتة المتتالية
التي تعرض حركة الخيل وضربات السيوف وهجوم الجنود .. وعن هذا قال (شاهين) :
"
السينما أعطتني القدرة على الحركة السريعة (fast motion) وطبعاً ليها استخداماتها ، وبرضه اديتني
القدرة على الحركة البطيئة (slow motion) ودي برضه ليها استخداماتها وتوظيفها .. كان لحظات الثبات أو
توقيف الزمن ودي أنا استخدمتها كويس في الفيلم ده ؛ علشان لما يبقى فيه معركة أو
حرب أول لحظة هجوم أو صدام الواحد بيبقى مش عارف يشوف حاجة ، فعملت كده .. ما دامت
السينما تسمح لي إني ألعب في الوقت وأسرقه وأحفظه وأثبته وأطوله على كيفي .. ليه
مستخدمش الإمكانية دي ؟ "
المأساة
الموسيقية ، وتجدد اللغة السينمائية : -
ابتكر (يوسف
شاهين) لوناً جديداً في السينما المصرية والعربية أسماهُ : المأساة الموسيقية
.. ويتضح هذا في فيلم (عودة الابن الضال) ..
"
أقصد بهذا التعبير الاجتهادي التفرقة بين الفيلم وما يطلقون عليه في هوليود أفلام
الكوميديا الموسيقية . فهناك أغانٍ في الفيلم ، ولكن ليس معنى هذا أنه فيلم كوميدي
. إنه ليس فيلماً كوميدياً ، وليس أيضاً من الأفلام التي يطلقون عليها في مصر :
الأفلام الغنائية "
وبسبب
منهجية التفكير هذه نجد أن لغة (شاهين) السينمائية متجددة ومتطورة دائماً وأبداً
.. فقد جرب على مدار مشواره الفني كل الاتجاهات السينمائية تقريباً .. فقد قدم
الأفلام الكوميدية كـ(بابا أمين) ، و(المهرج الكبير) .. والأفلام الاجتماعية
كـ(ابن النيل) ، و(صراع في الوادي) ، و(نساء بلا رجال) ، و(سيدة القصر) .. وكذلك
الأفلام التاريخية التي خاض فيها مغامرة تقديم حقب تاريخية لم ينقّب فيها أحدٌ
قبله .. كالحقبة الفرعونية في (المهاجر) والتي خرجت بشكل مشوق فعلاً ، وحقبة
الحملة الفرنسية التي كانت منسية سينمائياً في (وداعاً بونابرت) ، وحقبة (الناصر
صلاح الدين) ، وحقبة ابن رشد في (المصير) .. وكلها كانت تجارب ثرية وجديدة على
السينما عموماً على الرغم من اختلافنا حول الرؤى نفسها الموجودة في سيناريوهات هذه
الأفلام .
وأيضاً
قدم الفيلم السياسي .. مثل (الأرض) ، و(الاختيار) ، و(العصفور) ، (وعودة الابن
الضال) ، و(الآخر) ..
وأفلام
السيرة الذاتية الشهيرة ، وكذلك قدم الأفلام الغنائية كـ( انت حبيبي) ،
والاستعراضية الغنائية كتحفته (بياع الخواتم) التي لعبت فيها المطربة الأسطورية
(فيروز) دور البطولة إلى جوار المطرب الرائع : (نصري شمس الدين) .. وقد خصصت لهذا
الفيلم مقالاً مستقلاً أيضاً لما له من وضع خاص .
هذا
بالإضافة إلى الكثير من التناولات الفانتازية المتناثرة هنا وهناك في بعض هذه
الأفلام وقد مكنه هذا من أن يستخدم الرسوم المتحركة في أعماله ..
كل هذا
ليثبت (شاهين) مدى احترافه وتمكنه وعبقريته ، مهما اختلف اللون السينمائي الذي
يقدمه .. وقد أثبت هذا بالفعل .
أخرج (شاهين)
ما يقرب من خمسة أفلام قصيرة ؛ لكنه لم يجد نفسه فيها أبداً وذلك باعترافه هو ..
ربما لهذا لم يلقَ أي من هذه الأفلام ما يكفي من شهرة ، ومنا ما لم يتم عرضه أصلاً
.
* *
* *
والآن ما رأيك ؟ من بين كل هذه الأفلام التي
سبق الحديث عنها ؛ كم فيلماً شاهدت ؟ وكم مما شاهدتَ قد أعجبك ؟ .. هل اختلفت – أو
تعدلت – نظرتك لسينما (يوسف شاهين) ؟ هل تنوي المضي قدماً في متابعته بدءً من الآن
؟
الاستفزاز
في الأمر كله يكمن - كما قلتُ سلفاً - في أن هذا المخرج ظلمه جمهوره .. أو ربما قد
أتى في وقتٍ لا يحتاجه فيه هذا الجمهور .. لكن هذا قطعاً ليس مقياساً للقيمة
الفنية .. وكم من أفلامِ قد فشلت جماهيرياً لكنها أصبحت فيما بعد من علامات
السينما .. لا زلتُ أصر أن فيلم (إليزابث تاون) الذي صدر منذ عامين من بطولة
الواعد (أورلاندو بلوم) والجميلة (كرستين دانست) – واحداً من أفضل الأفلام التي
رأيتها في حياتي ، وقد صُدِمتُ فعلاً لما علمت أنه قد فشل جماهيرياً ..
ولِمَ
نذهب بعيداً ؟ .. على مستوى أفلام (يوسف شاهين) نفسها نجد مثلاً أن فيلمه الأسطوري
(الناصر صلاح الدين) لم يحقق إيرادات تذكر وقتها ، وكذلك فيلم (باب الحديد) الذي
يعده النقاد من أهم أفلام السينما المصرية قد تم رفضه من قِبَل الجمهور وقتها وبصق
أحد المشاهدين في وجه (شاهين) بعد مشاهدة الفيلم .
ولأن
إبداعه متميز جداً ، ولأن إخراجه يُحترم .. فقد عمل تحت توجيهاته مجموعة من أقوى
وأشهر النجوم في الوطن العربي .. كـ (يوسف وهبي) ، و(محمود المليجي) ، و(شكري
سرحان) ، و(أحمد مظهر) ، و(زكي طليمات) ، و(حمدي غيث) ، وقيثارة الشرق : (فيروز) ،
و(محسن محيي الدين) ، و(نور الشريف) ، و(محمود حميدة) ، و(يسرا) ، و(خالد النبوي)
، و(حنان ترك) ، و(حسين فهمي) ، و(سعاد نصر) ، و(ماجدة الخطيب) ، و(خالد صالح) ، و(منة
شلبي) .. والكثير والكثير ..
وأيضاً
تعلم منه وخرج من تحت عباءته الكثير من المخرجين .. منهم على سبيل المثال المخرج :
(يسري نصر الله) ، والمخرج : (خالد يوسف) .
ولـ(شاهين)
بعض السقطات .. منها على سبيل المثال أنه قد كرر تجربة الإنتاج المصري الفرنسي
المشترك التي تمت في فيلمه (اليوم السادس) وقد أحدث هذا الأمر خللاً بان في أداء
ونطق الممثلة داليدا – كرر هذه التجربة مرةً أخرى في فيلم (وداعاً بونابرت) على
الرغم من قراره أنه لن يكررها .. ولهذا السبب أرجع الناقد (سمير فريد) فشل هذين
الفيلمين لأنه اعتبر أنهما قد تما لأغراض تجارية .
ومن
المآخذ الخطيرة التي تؤخذ على (شاهين) هو مشاركاته غير القليلة في كتابة
سيناريوهات أفلامه التي لا تخرج بالشكل المتميز الكافي .. فالكثير من أفلامه تعتمد
في واقع الأمر على سيناريوهات ركيكة ، ولولا إبداعه الإخراجي فيها لما تبقى منها
شيء .
في نهاية هذه الدراسة المتواضعة ينبغي أن
أشير إلى أمرٍ بالغ الأهمية فأقول أن عبقرية (يوسف شاهين) الإخراجية كانت هي
الدافع الوحيد الذي دفعني لكتابة مثل هذه المعلومات وسرد هذه الانطباعات النقدية ،
وبذل بعض الجهد في سبيل هذا .. لأنه كمخرج يستحق أن نوفيه حقه الذي بخسه الكثيرون
.. لكني في ذات الوقت ينبغي أن أقول بوضوح : أن لي بعض التحفظات الكثيرة على (يوسف
شاهين) كشخص ، وكمفكر ، وكسيناريست .. وثمة بعض النقاط التي أختلف – ويختلف معي
الكثيرون – معه فيها كلياً .. ولم أُرِد أن أجعل هذه الدراسة التي أردتها تعريفية
أكثر منها شيئاً آخر – منبراً لحشو التحفظات وتفجير الاختلافات في وجهات النظر .
(يوسف
شاهين) المخرج عبقري تماماً ، ولا يختلف أحدنا على ذلك .. وأختم بما قاله عنه د. (رفيق
الصبان) في كتابه (أضواء على الماضي) :
"شاهين
يستطيع أن يضع السماء بكل اتساعها في غيمة واحدة أحياناً ، وأمطار الدنيا كلها في
كأس رقراقة شفافة من الكريستال ، وعيون نساء الأرض في نظرة ، وشبق الكون في قبلة
لا نراها "
أحمد صبري غباشي
فيلموجرافيا (يوسف شاهين) : -
- بابا
أمين (1950)
- ابن
النيل (1951)
- المهرج
الكبير (1952)
- سيدة
القطار (1952)
- نساء
بلا رجال (1953)
- صراع
في الوادي (1954)
- شيطان
الصحراء (1954)
- صراع
في الميناء (1956)
- ودعت
حبك (1956)
- انت
حبيبي (1957)
- جميلة
الجزائرية (1958)
- حب
إلى الأبد (1959)
- بين
ايديك (1960)
- نداء
العشاق (1960)
- رجل
في حياتي (1961)
- الناصر
صلاح الدين (1963)
- بياع
الخواتم (1965)
- فجر
يوم جديد (1965)
- رمال
من ذهب (1966)
- الاختيار
(1971)
- الناس
والنيل (1972)
- العصفور
(1974)
- عودة
الابن الضال (1976)
- إسكندرية...
ليه؟ (1979)
- حدوتة
مصرية (1982)
- وداعًا
بوناپارت (1985)
- إسكندرية
كمان وكمان (1990)
- الآخر
(1999)
- سكوت
ح نصور (2001)
- 01
9 11 سبتمبر 11 (2002)
- إسكندرية..
نيويورك (2004)
- هي
فوضى (2007)
المراجع
: -
- (سينما
يوسف شاهين .. تطور الرؤية والأسلوب) لـ(سعاد شوقي)
- (أضواء
على سينما يوسف شاهين) .. لـ(سمير فريد)
- (أضواء
على الماضي) .. لـ(د. رفيق الصبان)
-
الإنترنت