Tuesday, 24 January 2017

أيدولوجيات (يوسف شاهين)، ومنهجه في السينما



بقلم: أحمد صبري غباشي

في القسم الأول سأتحدث عن اتجاهات (يوسف شاهين) الفكرية وأيدولوجياته ومنهجه في السينما .. كي أضع أساساً سليماً يجعل حديثي في القسمين التاليين واضحاً وسهلاً ..

مرحلة الازدهار الكاذبة : فبعدما درس التمثيل والإخراج في كلية (فيكتوريا) في الولايات المتحدة الأمريكية وعاد إلى مصر كي يبحث عن فرصة يبدأ بها مشواره في السينما عام 1950 .. لم يلقَ منتجاً واحداً وقتها يقتنع به وبالسيناريو الذي كتبه لفيلم أراد أن يبدأ عمله به هو (ابن النيل) ، ولكن رشحه المصور الإيطالي (أورفانيللي) لإحدى شركات الإنتاج بعد اعتذار أحد كبار المخرجين ، فوافقت هذه الشركة وقتها فقط لضآلة أجره ، وطلبت منه أن يقدم عملاً آخر غير (ابن النيل) .. فقدم قصة فيلم (بابا أمين) وعمره تقريباً 24 عام ، ومن هنا بدأ مشوار (شاهين) التاريخي والذي يقترب الآن من ستين عاماً في عمر السينما ..
 حينها كانت السينما – كما وصف النقاد – تمر بمرحلة ازدهار كاذبة بعد الحرب العالمية الثانية .. لكنه جاء وقدم (بابا أمين) فيلماً مختلفاً في الشكل والمضمون ؛ استطاع عن طريقه أن يبرز قدراته كمخرج . كان الفيلم اجتماعياً يبتعد كل البعد عن أي مغزى أو إسقاطة سياسية .. فقد جاء المخرج الشاب من الولايات المتحدة إلى مصر على غير دراية بالواقع السياسي المصري .. وظل هكذا بدون وعي سياسي حتى أخرج رائعته (الأرض) عام 1970 ، وذلك باعترافه هو شخصياً .
وعيه السياسي : - تجلى وعيه السياسي الذي كان غائباً بوضوح في الكثير من أفلامه التي ظهرت بعد (الأرض) .. مثل (الاختيار) ، و(العصفور) ، و(عودة الابن الضال) .. وقد فتش في أفلامه الأربعة هذه تحديداً عن أسباب نكسة 67 وأوضح تأثره الشديد بها ..
 فـ في (الأرض) تجلت الروعة كاملة عندما ناقش الفكرة نفسها مجردة .. فكرة تمسك الفلاح بأرضه واستبساله واستماتته في الدفاع عنها ونيل حقه ، ومن المؤكد أننا لا ننسى المشهد الخالد الذي أداه (محمود المليجي) ببراعة في نهاية الفيلم .. عندما لم يمنعه القهر السياسي وجذبه بحبل ربطوا طرفه في جسده والطرف الآخر في خيل الحكومة الذي يعدو كي يبعدوه عن أرضه – لم يمنعه هذا من التشبث بزرعه ومن غرس أصابعه في أرضه على الرغم من جسده المسحوب بعنف .. وامتزجت الدماء على يديه بطين الأرض في مشهد معبر رائع !
 وعن فيلم (الاختيار) قال (شاهين) : " إنه المواجهة المباشرة مع الهزيمة ، والطرح الواضح لمسئولية المثقفين عن هذه الهزيمة ، ومسئولية المجتمع ككل "
 أما فيلم (العصفور) فقد حظى بنصيب وافر من الجرأة ، وكان محملاً بمضامين فكرية مختلفة كلها تتمركز حول غضب الشعب من المؤسسات الحكومية المرتشية المخربة بعد النكسة .. وقد تم منع عرض الفيلم إلى ما بعد حرب أكتوبر مما أصاب (شاهين) ببعض اليأس ، وبدأت تدور في ذهنه فكرة فيلمه المميز (عودة الابن الضال) .
وعن (عودة الابن الضال) تفيد الناقدة (سعاد شوقي) بأن البحث المتواصل عن أسباب هزيمتنا في نكسة 677 قد استمر في هذا الفيلم عن طريق طرحه لأفكار كثيرة تتشعب لمستويات شتى .. أفكار كلها تدور حول ضرورة العلم ، وتحقيق الحلم ، والاغتصاب ، والطمع ، وحب المال ، والإيمان بدور الشباب ، وأهمية البناء ، والثورة على المغتصب ، والأمل في المستقبل ..
 أفكار من العيار الثقيل استطاع أن يجسدها من خلال شخصيات الفيلم العميقة وصراعاتها المختلفة ، ومن خلال تقنيات عالية على مستوى المكان والتكوينات والتشكيل الدرامي .
الصراع الاجتماعي والنفسي : -  الصراع الطبقي ثابت في أفلام كثيرة له كجزء مهم جداً من واقع مصر الاجتماعي ، والذي يستخدمه ليضيف بعداً نفسياً في تركيبات شخصياته . وكرهه هو شخصياً للطبقة البرجوازية واضح كأقصى ما يكون في معظم أفلامه .. دوماً يسخر من هذه الطبقة مبرزاً عيوبها وبشاعتها .
أما صفة التسامح والتعايش بين الأديان فقد أثبتت وجودها في سينما (شاهين) بقوة .. ونجدها واضحة في (الناصر صلاح الدين) إذا نظرنا لعلاقته الطيبة بـ(عيسى العوام) المسيحي والذي كان يفترض أنه من أخص جنود (صلاح الدين) ، وكذلك في فيلم (إسكندرية ليه؟) إذا لحظنا العلاقة الوطيدة التي تجمع بين (محسن) المسلم و(يحيى) المسيحي و(ديفيد) اليهودي بغض النظر عن اختلاف الديانات .. وكان هذا بالفعل جزء من واقع مصر الاجتماعي في تلك الفترة .
غاص (شاهين) في النفس البشرية وشغله تقديم نماذج غريبة على المستوى النفسي .. فقدم شخصيات مركبة في أغلب أعماله .. مثل (قناوي) في (باب الحديد) ، و(صلاح الدين) ، و(ريتشارد قلب الأسد) ، و(عوكا) في (اليوم السادس) ... الخ
الإغراق في المحلية هو الطريق للعالمية : -  ومن أهم ما يُحسب لـ(يوسف شاهين) – على مدار تاريخه الفني – من وجهة نظري هو أنه قد رسّخ مبدأ : "الإغراق في المحلية هو الطريق للعالمية" .. فهو على الرغم من عشقه لمختلف الفنون العالمية – من سينما ومسرح وأدب وموسيقى - وتأثره بها على المستوى الشخصي .. إلا أنه لم يُسخّر مسيرته الفنية كوسيلة للتعبير عن انبهاره بالغرب وفنونه كما يفعل الكثير من المخرجين ، ولكن على العكس .. لقد أغرق (شاهين) في المحلية .. فحملت جميع أفلامه روح مصر خاصة والعرب عامة .. بواقعها السياسي وقضاياها الاجتماعية والفكرية والفنية .. مُعلياً من قيمتها حيناً ، ومبرزاً سلبياتها حيناً آخر ؛ مع الافتخار في كل الحالات بالانتماء لها – على الرغم من أيدولوجيته المعارِضة للحكومة - ..
 حتى لو ألصق به البعض تهمة (الخواجة) كما هو شائع ، فيكفي أنه قد ارتقى بمصر وبفنها السينمائي إلى مصاف العالمية مهما اختلفنا معه بعد ذلك .. لكنه على كل حال لم يكن من مرضى عقدة الخواجة الذين يسعون بكافة الأشكال لبروزة أمريكا ومناصريها .. بل على العكس إنه يحقر دوماً هذا الكيان ويقلل من قيمته .. تم هذا أكثر من مرة في أفلامه .. وقد سبق أن صور أمريكا من قبل في فيلمه (إسكندرية ليه؟) كامرأة ساقطة عندما صبغ وجه تمثال الحرية بمساحيق التجميل الفجة وصنع فلقة بين أسنان وجه التمثال وألصق بالوجه ابتسامة سخرية بشعة ، ووصف أمريكا نفسها من قبل بأنها عاهرة ..
 وفي فيلم (المصير) نقل ومضات من تاريخ فرنسا المليء بالجهل والظلمات .. في حين صوّر مصر بلداً للنور والمعرفة .. وقد رسخ أيضاً هذا المفهوم أكثر من مرة في أفلام أخرى كـ(المهاجر) ، و(سكوت ح نصور) مثلاً ..
 وعلى الرغم من هذا فقد وصل للعالمية ، واحتفى الغرب ذاته بفنه وأعماله .
أكثر ما يثير سخطي وتقززي في سينما (يوسف شاهين) هي الإشارات غير القليلة إلى العلاقات المثلية الشاذة ، وتجلى هذا واضحاً في أفلام سيرته الذاتية تحديداً (إسكندرية ليه ؟) ، و(حدوتة مصرية) ، و(إسكندرية كمان وكمان) ، و(إسكندرية .. نيويورك) .
هذا ويرفض (شاهين) تماماً مبدأ البساطة في تقديم أعماله ، بل ويعتبرها – حسب تعبيره – إهانة للعقل .. وربما أتبنى وجهة نظر مغايرة لهذا الكلام ؛ لكن لكلٍ منهجه ورؤيته الفنية الخاصة على كل حال .
* * * *
" لا تجعلوا السيرة الذاتية سجناً يوضع فيه الفيلم ولا يُرى إلا من خلاله .. نعم هي سيرتي الذاتية ، ولكن كل فيلم من أفلام كل مخرج هو على نحوٍ ما سيرة ذاتية . سيرة اللحظة التي صور فيها المشهد ، وانعكاس للحالة أثناء التصوير "
(يوسف شاهين)

No comments:

Post a Comment