نحن في زمن الرواية .. بات هذا مؤكداً ..
لو كنت ممن يكتبون القصة، ستذهب بقصصك في زيارةٍ خاصةٍ لصديق من القراء المخضرمين ذوي الخبرة، لتجسّ النبض.. سيقابلك بنصف حفاوة وأنت تحدثه عن قصصك، بينما يطالع كتاباً في يده..
ستسأله عن رأيه. سينظر لك بعينيه اللتين ينقلهما بينك وبين صفحات الكتاب في يده.. ويخبرك أن الناس لم تعد تهتم كما السابق بفن القصة القصيرة، ويضيف: "نحن في زمن الرواية".
ستهز رأسك موافقاً إياه على عجل لتتخطى الحقيقة الصادمة، وتردف أنك بذلت مجهوداً كبيراً في تقنيات قصصك وألعاب السرد والقصّ كي تجعلها جذابة..
سيطل برأسه من خلف الكتاب – الذي من الواضح أنه لا يقرؤه للمرة الأولى لأنه لا يشعر بضيق للمقاطعة – ويقول لك: "يا عزيزي كل هذا جميل.. لكن الناس تنجذب أكثر هذه الأيام إلى فن الرواية، ولا أدري سبباً محدداً لهذا.. ربما لأن دولة الشعر سقطت، أو لأن القصة القصيرة غاب فرسانها.. أو بسبب –وهذا هو الأرجح– أن الناس في أيامنا هذه بحاجة إلى أن (تعيش في الوهم).. تهرب إلى عوالم أخرى من واقعها التي تحياه.. صدقني، نحن في زمن الرواية!"
تسمع كلماته، وتهز رأسك في أسى.. ولكن مهلاً!.. لماذا يخبرك صديقك بهذا بينما الكتاب الذي يقرؤه الآن في يده هو: مجموعة قصصية لـ يوسف إدريس ؟
* * * *
من هو يوسف إدريس؟
يوسف إدريس هو كتلة الصخب والثورة والتغيير التي تفصل بين زمانين في الأدب العربي الحديث..
هو الزلزال الذي هزّ رتابة الوسط الثقافي المصري، وربما العربي، ليحرّض المبدعين : "هيا .. أبدعوا .. جربوا .. غامِروا ."
ولهذا فإن صديقك المخضرم لم يكن يخدعك حين كان يخبرك أننا في زمن الرواية ، بينما هو نفسه يمسك كتاباً (قصصياً) لـ إدريس .. لأن يوسف إدريس خارج هذه الحسابات .. حين تقرأ له وتغرق في قصصه ومفاهيمه وعالمه ، تدرك أن هذا فنان يفرض القوانين ويتخطى حاجز الزمن ليعيش حتى وإن مات !
ثمة نوعان من الأدباء :
• أدباء يلتزمون بالقواعد لينجحوا .
• وآخرون بلغوا من النجاح مبلغاً جعلهم هم أنفسهم القواعد .. هم القوانين ذاتها .
ويوسف إدريس ينتمي لهذا النوع الأخير .
ربما من سوء – أو حسن – الحظ أن يوسف إدريس لم يمتلك حساباً على الفيسبوك ، وإلا كنت ستجد عبارته الوصفية على غرار : "أنا شاب اتخلق عشان يعمل قلق" ..
عبارة سوقية نوعاً لكنها تعبر بشكلٍ ما عن حالة يوسف إدريس .. فهو بوجوده واقتحامه لعالم الأدب قد غيّر خريطة القصة القصيرة وطوّر من أساليبها ومفهومها ذاته ، ليصير واحداً من أعظم من يمارسون هذا الفن في العالم كله . ويصير اسمه مع (تشيكوف) و(جي دي موباسان) جنباً إلى جنب .
خاض في حياته كثيراً من المعارك الفكرية والثقافية ، ولهذا تتضارب الأقاويل بخصوص شخصيته .. لكن لا اختلاف على أنه يمثل علامةً فارقة في الأدب العربي .. واسماً بارزاً في الأدب العالمي ، فقد كان من الذين أغرقوا في المحلية حتى وصلوا للعالمية .. خرج أدبه وظهرت كتاباته مصريةً خالصة .
وعن رؤيته في فن القصة .. فقد قسّمَ كتابة القصة إلى ثلاثة أقسام :
- قصص النميمة : أو ما يشبه الحواديت التي تعتمد على الخوض في سِيَر الشخوص وحيواتهم ، أو ما أسميه : أدب التلصص من ثقب الباب .. لكنه لم يحب هذا اللون من ألوان الكتابة .
- القصة الصحفية : وهدفها التسلسل في المقام الأول كي يظل القارئ متابعاً لها حتى النهاية .. وهو يعتبرها فناً صحفياً .
- القصة الفنية : وهي القسم الثالث الذي مارسه يوسف إدريس وقدّمه .. فقد كان يكتب القصة كي تتم قراءتها باستمرار لا مرة واحدة ، فيحرص في بنائها على أن تجذبك لقرائتها من جديد .. وأن تكون لكل قصة موسيقاها ، ولغتها ، وطابعها الخاص . يقدم فيها – حسب تعبيره – : الفن المصفّى .
أرى أن قصصه تشبه إلى حدٍ كبير حياته الصاخبة ، وتكشف لك في الوقت نفسه صخب النفس البشرية ..
فإذا كان نجيب محفوظ في رواياته يرصد طبائع النفس البشرية على المدى الطويل وتغيراتها .. فإن يوسف إدريس يجيد تشريح النفوس عن طريق الإمساك بـ لحظة ، أو انفعال ، أو موقف ما يتعرض له البطل في قصصه .. حينها تبهرك قدرته على الغوص العميق إلى الداخل . وكما قال : "ليت الانسان مثل الرياضيات او علوم الهندسة تفسره بضع نظريات..ذلك الكائن الذى لا تزيدنا معرفتنا به الا تصعيباً لمهمة فهمه"
في شخوصه تجد غالباً الصراع ، ليس مع الذات وحسب ، ولكن صراع في تحديد موقفهم من الآخَر أيضاً .. سواء كان هذا (الآخَر) مغايراً في الفكر ، كما في قصة سنوبزم .. أو مغايراً في البيئة ، كما في قصته : النداهة ، مثلاً .
لا تجد في قصصه تشريحاً للنفس البشرية ، أو للشخصية المصرية فقط .. وإنما يقدم في كثير من الأحيان نقداً لاذعاً للمجتمع . تجد هذا مثلاً في أعمال له كـ (الحرام – العيب – النداهة) .. أرى في هذه الأعمال الثلاثة خيطاً يربط بينها رغم اختلاف السياق والأحداث .. فهو من خلالها يعرض زيف مجتمع يلهج لسانه بترديد المبادئ والقيم فيبدو نظيفاً برّاقاً من الخارج ، لكنه في حقيقة الأمر لا يتورع عن القضاء على كل ما يعترض طريقه في سبيل تحقيق غايته أياً كانت الوسيلة .
مثال آخر نجده في قصة (سنوبزم) التي تعرض مشهد تحرش رجل ما بامرأة ضعيفة في مواصلة عامة ، في أثناء تواجد شخص مثقف يراقب الموقف ويرى المرأة تستغيث بالحاضرين الذين يتركون الرجل ويلقون باللوم عليها هي نفسها .. نعم .. أعرف فيم تفكر الآن ! .. أجل ، أنت محق .. هذا شبيه بحادثة (العباية أم كباسين) التي تابعتها مصر كلها في ميدان التحرير .. الفتاة التي عرّاها العسكر ، وقاموا بضربها وسحلها بوحشية ، فقط كي يلومها الناس على تواجدها هناك وعلى ارتدائها العباءة على اللحم ..
كتب يوسف إدريس قصته تلك قبل هذا الحدث بعشرات الأعوام .. نعم يا عزيزي .. هذا هو الأدب الذي يصلح لكل زمان ومكان .
ومسرحياً ، فقد أضاف الكثير للمسرح المصري .. ليس بكتاباته وحسب ، ولكن بالمنهج الجديد الذي طرحه ، ودعا له ، وقام بتطبيقه بالفعل في مسرحياته .. ليصبح المسرح المصري محط أنظار العالم كله ، كما حدث مع أشهر أعماله المسرحية (الفرافير) التي قدمت بلغات مختلفة بواسطة فِرق أجنبية عدة في بلدان أوروبا .
يوسف إدريس كـ كاتب مسرحي في بداياته تأثر تأثراً شديداً بالقصة ، وكان عنصر القصّ غلاباً في طريقته المسرحية .. وكما قال هو ، فإن الوسيلة الوحيدة لتعلم كتابة المسرح ليست موجودة في الكتب ، ولكن بالممارسة .. بدأ يتعلم مع مرور الوقت وكثرة التجارب ، حتى أتقن فكرة (الحفر إلى أعمق) وهو يبحث عن سر الدراما .. حتى صار متمكناً من أدواته المسرحية ..
الكتابة للمسرح بالمناسبة هي أصعب أنواع الكتابة ..
وكان يرى أن المسرح يجب أن يكون مصرياً عربياً كي يؤثر في الناس .
مسرحياته بعيدة عن الشكل التقليدي المعهود لبناء المسرحية (بداية – عقدة – ذروة – نهاية) .. ولا تعتمد على الحدوتة وتشابك الأحداث .. لكنه استلهم منهجه المسرحي من ما يسمى بـ مسرح (السامر) مصريّ الأصل والطابع ، والذي يعتمد على التفاعل مع الجمهور وإدخاله ضمن اللعبة المسرحية .. ورأيي أن البطل الأساسي في مسرحيات يوسف إدريس هو الحوار .. ملئ بالمشاغبة والمعاني الفلسفية التي تتميز بتماسها وقربها من عقل ووجدان المتفرج ، وليست مغرقة في الغموض والتعقيد كما نشاهد في أعمال مسرحية أخرى كثيرة .
أوصي بقراءة مسرحيته "المهزلة الأرضية" .. وطبعاً رائعته : "الفرافير" .
هذا هو الصخب الذي أراه دوماً في قصص يوسف إدريس ومسرحه .. كتاباته تحدث صخباً في نفسك وتدفعك للتساؤل والنظر حولك .
فالكتابة عنده لم تكن مجرد وسيلة للتنفيث ، وليست أيضاً لتعذيب الذات كما يفعل البعض .. وإنما كانت محاولة للفهم .. أذكر جيداً مقولة قالها في حوار تليفزيوني :
"أحياناً لما أكون عاوز أفهم حاجة .. بكتبها!"
وقال عنه د. أحمد خالد توفيق : "يوسف إدريس أهم كاتب قصة قصيرة في مصر .. وفي روسيا يعتبرونه صنواً لتشيكوف ... لا يعني هذا أن عليك أن تحبه .. لكن جرب قراءة (أرخص ليالي) و(بيت من لحم) و(لغة الآي آي) و(كلمة شرف).. يوسف إدريس يذهلني وهو الكاتب المصري الوحيد بعد نجيب محفوظ الذي يشعرني بالعجز والتضاؤل ".
ما لا يعلمه الكثيرون عن يوسف إدريس أنه كان على علاقة طيبة بالأديب الفلسطيني الرائع (غسان كنفاني) وكتب مقدمة إحدى إصداراته ، وأنه كان حريصاً على متابعة الكتاب الشباب في وقته ورعايتهم .. وقدّم للوسط الأدبي في مصر العديد من الأسماء التي لمعت فيما بعد ، لعل أبرزها الكاتب الكبير : صنع الله إبراهيم .. الذي قدمه يوسف إدريس للجمهور ، وكتب مقدمة أول إصداراته : تلك الرائحة .
وعندما سًئل في هذا الأمر قال : أنا حريص إلى أبعد الحدود على قراءة كل حرفٍ يكتبه الشبان سواء في مصر أو في العالم العربي ، وأكرر إنني تعلمت وما زلت أتعلم منهم كل يوم ، ولكن لابد من تقرير أن الكثير منهم كان رد فعل للنكسة ، وقليل جداً منهم من فهم الأصالة ، وبالتالي فالسؤال الهام هو : من سيستمر ؟ .. الاستمرار لأنه القضية رقم واحد بالنسبة إليهم ، ولذلك من الصعب الحكم على من سيظل يكتب .. أي أن الحكم على أي عمل أدبي من خلال وضعه اليوم يعد حكماً ناقصاً ."
وبالرغم من هذا فلن يحطم أحد أسنان صديقنا القارئ المخضرم الذي يصر على أننا نحيا "زمن الرواية" .. لكني كما قلتُ هناك دوماً من يقدر – ببراعته – أن يفرض القوانين ..
لن تستطيع فرض قوانينك (القصصية) في زمن الرواية ، إلا إذا كنت يوسف إدريس ..
أو أحد قرائه .
أحمد صبري غباشي
No comments:
Post a Comment