(الدرويش) مَلِك في دُنيا الصعَاليك
كتبت دعاء الفولي – موقع مصراوي:
الشوارع ليست حانية على ساكنيها، تقتلع الحياة من
أرواحهم، يلفحهم صلفها فيخافهم المارة، أو يصبح حالهم مثيرا للشفقة؛ حتى وإن كانوا
في السابق مبدعين، فالفن على جماله لا يرحم من لفظته السلطة أو المجتمع؛ نجيب سرور،
محمد بهنس وغيرهم من الذين انتهت حياتهم إما بالموت على الأرصفة أو الجنون؛ غير أن
ذكراهم حاضرة في قلب شباب قرروا أن يكون فيلمهم "الدرويش" إهداء للمشاهير
والمجهولين ممن احتضنتهم الشوارع ونسيهم الآخرون.
قلم وردي اللون اختبأ أسفل صلاح الطيب، الكاتب الأربعيني
ذو الملابس المتسخة، نحيلا كهيكل عظمي، صوته مبحوح، يتكأ على قدميه حين يتحرك هاربا
من سيارات الشرطة، فينسى قلمه، لا يعرفه أحد في الشارع، لا يتذكرون مجده، وهو لا ينتظر
منهم إحسانا، تتلخص آماله في الحصول على قلم وورقة ليسجل بهم أبيات الشعر التي باغتت
خياله. هو درويش الكتابة الذي يراه الناس صعلوكا.
هاجس الموت
على سرير بمستشفى حكومي أو في الشارع داعب عقل خالد منصور مخرج الفيلم طوال الوقت،
كان ذلك ما دفعه لكتابة قصة قصيرة منذ عدة أعوام عن نفس الفكرة، وحين انتشر خبر وفاة
الشاعر والرسام محمد بهنس وحيدا في الشارع جراء الصقيع، ظن أنه الوقت المناسب لخوض
تجربة الفيلم البالغ مدته 15 دقيقة "ساعتها تواصلت مع محمد مهدي عشان تتحول القصة
إلى سيناريو"، قال "منصور".
لم يتردد "مهدي" كثيرا في القبول، يشارك
صديقه في نفس الخوف من القادم "وشخصية البطل فيها من ناس حقيقيين أنا قابلتهم،
كانوا كبار في شغلهم وبعدين نِجمهم انطفى"، بدأ العمل فورا على تفاصيل البطل وتاريخه،
حتى تم الانتهاء من النسخة الأولية للسيناريو وخرج "الطيب" للوجود
"فضلنا إننا منسميش الشخصية باسم سرور أو بهنس أو غيرهم لأننا مش بنرصد حياة دول
تحديدا.. صلاح الطيب موجود في كل العصور"، وتم الاستقرار على النسخة النهائية
للسيناريو في ديسمبر 2014.
تلك التجربة
هي الثانية سينمائيا لبطل الفيلم أحمد صبري غباشي، خبرته في المسرح أكبر، نالت الفكرة
إعجابه "لكن مكنتش عارف خالد عايزني في أي دور"، أخبره المخرج أنه
"الدرويش"، ما سيكون عسيرا، فهيئته أقرب للوسامة منها إلى تلك الشخصية، والسينما
تختلف عن المسرح؛ فهي تفضح تفاصيل كل شيء، لكنه وافق بصدر رحب مدفوعا بروح المغامرة
وحب الكاتب نجيب سرور، ظن المخرج أن "غباشي" الأنسب لتمثيل الدور "كان
فيه تحدي، شارلي شابلن كان وسيم بس الناس مكنتش متخيلة شكله عشان دخوله في الشخصية"
على حد قول "منصور".
وقع على عاتق
البطل جزء من تطوير الشخصية أمام الكاميرا، ثمة أشياء صغيرة ارتأى أنها ستكون متناسقة
مع الشخصية "زي صوته اللي رايح"، انفصال "غباشي" عن الواقع المحيط
أثناء التصوير في الشارع لم يكن سهلا، بين حين وآخر يقطع التركيز شخص فضولي يسأل الطاقم
عما يفعلونه، أو يتهمهم بتشويه سمعة مصر "عشان شكلي شحات فدة أول انطباع بيجيلهم"،
حاول الفريق إذابة تلك العراقيل، فيما سعى البطل جاهدا أن يركز بما يفعل "كنت
نايم في الشارع وقاعد في البرد زي صلاح".
عشرة آلاف جنيه هي تكلفة الفيلم الذي خرج برعاية موقع
مصراوي، وهي قليلة مقارنة بمتوسط الميزانيات عموما، تنازل معظم طاقم الفيلم عن الأجر،
طالما أنهم سيصنعون شيئا يفتخرون به فيما بعد "احنا بنشتغل باستمتاع شديد ومؤمنين
بالحاجة اللي بنعملها"، أضاف "مهدي".
حين أرخى الليل سدوله، وفقد الدرويش الطيب الأمل في
إيجاد قلم، جلس على رصيف مرتفع، لاحظ قطعة
خبز غطاها التراب، رفع ناظريه باحثا إذا كان هناك من يراقبه، أخذها ببطء، مسحها بيده
ثم أكلها سريعا؛ لم تكن كافية لإشباعه، لكنها ستجعله يتحامل على نفسه حتى يصل إلى ما
يريد، روح الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور بدت واضحة في بعض اللقطات، إذ يقول في قصيدته
"مرثية رجل تافه": "بضع لقيمات تناثرت على شطوطها التراب.. ألقى بها
الصبيان للدجاج والكلاب.. وكنت إن تركت لقمة أنفت أن ألمها، يلقطها، يمسحها في كمه،
يبوسها، يأكلها".
تحويل السيناريو
إلى مشاهد مصورة كان دور إسلام الشرنوبي، مدير التصوير، ولأن إمكانات الفيلم محدودة
ماديا فكذلك المعدات. بين عقبة وأخرى وجد المصور الشاب مع المخرج وفريق العمل حلول
بديلة، اضطروا لإلغاء أحد اللقطات بسبب صعوبة تنفيذها "كانت الكاميرا مفروض هتتحرك
مع ورقة بتطير من الأرض وتنزل على الأرض تاني".
فشلت المحاولات
لخروج تلك الصورة بشكل صحيح، استغرق سعيهم ثلاث ساعات دون نتيجة مرضية، ولم تكن اللقطة
ستؤثر كثيرا في شكل الفيلم النهائي لذا استبعدوها، بالإضافة للمشاهد التي احتاج مدير
التصوير التقاطها على مراحل، وترك مساحة زمنية تقارب الساعة بينها "ولأننا بنصور
في الشارع فكنا لازم نتأكد إن مكان الكاميرا مش معرضها للخطر".
فريق العمل الأساسي ليس متفرغا "كنا وقت التصوير
بنحاول نظبط مواعيد شغلنا"، على حد تعبير "الشرنوبي" الذي اضطر أحيانا
للعمل أكثر من 24 ساعة للتوفيق بين الفيلم وعمله "بس وقت التصوير كان كل التعب
بيروح لما أحس إننا أنجزنا حاجة حلوة"، استغرق التصوير يومين، والمونتاج وما يصاحبه
شهرين، بأعجوبة استطاع الفريق إنجاز التصوير قبل منتصف يناير، يوضح المخرج أن الاستعدادات
الأمنية في شوارع وسط البلد-مكان تصوير الفيلم- كانت ستكون أكبر مع اقتراب ذكرى الثورة،
وقد يعطلهم ذلك.
لم يفقد شباب الفيلم الأمل يوما في حصولهم على تقدير
معنوي مقابل مجهوداتهم، حاول "منصور" إرسال نسخة منه إلى مهرجان "كان"
السينمائي، الذي يقام بفرنسا، لكن حدثت مشكلة في الصوت، علم المخرج فيما بعد أن هذا
أفضل ربما "المسابقة بتاخد كام فيلم من ضمن 3500 فيلم بييجوا، الموضوع كان هيبقى
صعب خاصة إن الأفلام دي أكيد قوية جدا وميزانيتها أعلى"، لذا قرر إرسال الفيلم
إلى ركن الأفلام القصيرة بالمهرجان، تقبل تلك الفئة عدد أكبر من المشاريع، ورغم أنها
بلا جوائز، لكن مجرد العرض هناك مكسب "المهرجان بيبقى فيه صناع أفلام من كل مكان
في العالم ومنتجين وشركات أفلام وتسويق فأكيد فرصة كويسة".
بضع ساعات مرت قبل أن ترد إدارة المهرجان على المخرج
العشريني أنه تم قبولهم للمشاركة بذلك الركن. "خالد اتصل بيا متأخر قالي: وصلنا
كان. الفرحة كانت عظيمة وكنا هنتصل بباقي الفريق وننزل نحتفل بس كنا الفجر"، قال
"مهدي" مؤكدا أنه تيقن من وجود مكافأة على تعبهم إن آجلا أو عاجلا، أما
"غباشي" فرغم فرحته الكبيرة إلا أن استفادته بدأت مع تمثيله للتجربة سينمائية
"عشان كدة انا كسبان في كل الأحوال".
"الطيب" قد يجد القلم أو لا يجده في الفيلم،
المهم أنه حاول بشتى الطرق؛ مرة بأن يكتب على
قطعة الخبز مُخيلا إليه أنه سيفلح، أو على الهواء، مازال بحثه مستمرا، وكذلك تنقيب
صناع الفيلم عما يرضيهم فنيا، ما يخفف من وطأة هواجسهم بأن يكون أحدهم مثل "صلاح".
بين رحى "أكل العيش"، وشغف السينما تنتعش مساحتهم من الحرية، فالحلم قائم
وإن جاء مهرجان "كان" أو لم يأتِ.
No comments:
Post a Comment