Wednesday, 1 February 2017

مسرحية عزازيل.. محاولات الاكتشاف والمواجهة.




كتب: خالد خسونه - في جريدة مسرحنا:

علي مسرح قاعة صلاح جاهين بمسرح البالون وضمن فعاليات مهرجان آفاق المسرحي والذي يُقدم مئات الشباب - الباحث عن المسرح والحرية - تجاربهم المسرحية من خلاله .. قد قامت فرقة " ميلوفرينيا" إحدي الفرق الحرة بالمنصورة بتقديم العرض المسرحي " عزازيل " وهو عن رواية الكاتب يوسف زيدان ، ومسرحة وإخراج / أحمد صبري غباشي .. وفي البداية يُحسب للتجربة أن تناولت إحدي الروايات التي أحدثت ضجة منذ صدورها حيث يتناول باحث إسلامي حياة ومشكلات كنسية كبري ويقتحم حياة الأديرة ، ولعل كون الدكتور يوسف زيدان دارسا للفلسفة الإسلامية ومتخصصًا في فهرسة المخطوطات قد منحاه تلك الحنكة التي أدار وكتب بها روايته المتميزة والتي تقع في واحد وثلاثين فصلاً أو رقاً علي حسب تعبير الكاتب ، وتدور أحداثها من خلال راهب مصري عاش في نهايات القرن الثالث وبدايات القرن الرابع الميلادي أي قبل الإسلام بحوالي مائتي عام ، وقد قرر الراهب أن يدون وقائع حياته وما جري له من خطوب جليلة ومؤثرات رهيبة تقاذقته خلالها أمواج الحياة بين الإيمان والشك والوقوف علي شفا التجديف أحياناً باحثاً عن الحكمة أحياناً وعن أصل الديانة أحياناً أخري وناهلاً من حلاوة العلم ومرفرفاً في رحاب الإمتاع العقلي أحياناً .. مرتمياً في مزابل الشهوات والغوايات أحياناً أخري متقلباً بأفكاره بين متناقضات العقل والأسئلة المحيرة التي تلح علي النفس وتصرخ بأنها لن تهدأ إلا بإجابات شافية .. ومن وراء الأحداث يبرز عزازيل الذي تتزايد نبرته وينجلي حضوره في الرواية شيئاً فشيئاً حتي يراه الراوي ويحسه ويتعايش معه ويتحاور معه حواراً رائعاً لايمكن وصفه إلا بالصدق المجرد ، وتبدأ أحداث الرواية في صومعة الراهب هيبا ويحكي منها رحلته من مسقط رأسه في صعيد مصر مروراً بمحافظات صعيد مصر ثم بالإسكندرية وأورشليم إلي سرمده ثم دمشق وفي كل مدينة كانت له أحداث وأفكار وصراعات وتفاعلات مع الأحداث التاريخية (الحقيقية) المذكورة في الرواية لكن الرائع والفريد فيها هو الحوار الذاتي ، وتضمينه وإدخاله مع الحوار مع عزازيل ..
 وقد بني زيدان روايته بناءً متقناً ومشوقاً ، إذ حاول أن يوحي للقارئ منذ الوهلة الأولي بأنها قصة حقيقية وجدت مكتوبة في رقائق جلدية أثرية مكتوبة باللغة السريانية ، فيبدأ بمقدمة تُوهم القارئ بأن ما يقرؤه هو مخطوطات حقيقية، فيقول المترجم الوهمي : "يضم هذا الكتاب الذي أوصيت بنشره بعد وفاتي ترجمة أمينة قدر المستطاع لمجموعة من اللفائف ( الرقوق ) التي اكتشفت قبل عشر سنوات بالخرائب الأثرية الواقعة إلي جهة الشمال الغربي من مدينة حلب السورية...وقد وصلتنا هذه الرقوق بما عليها من كتابات سريانية قديمة في حالة جيدة مع أنها كتبت في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي- وهناك حواش وتعليقات مكتوبة علي أطراف الرقوق باللغة العربية، تمت كتابتها في حدود القرن الخامس الهجري تقريبا، كتبها فيما يبدو لي راهب عربي من أتباع كنيسة الرها التي اتخذت النسطورية مذهبا لها، وقد أوردت بعض هذه الحواشي في ترجمتي ولم أورد بعضها الآخر لخطورتها البالغة". وكما يقول الدكتور صلاح فضل في إحدي مقالاته أن حيلة المؤلف هذه حيلة مألوفة في الإبداع الروائي منذ سرفانتس الإسباني الذي زعم أن دون كيخوته ليست سوي مخطوط قديم لعربي موريسكي من الأندلس، وحتي أمبرتو إيكو المبدع والناقد الإيطالي المعاصر في رائعته الذائعة "اسم الوردة".
 وقد قام المخرج الشاب أحمد صبري بمحاولة جيدة لمسرحة هذه الرواية والتي تُقدم لأول مرة علي خشبة المسرح ، وقد اجتهد لتحويل هذه الرواية الطويلة إلي مسرحية تدور أحداثها في أقل من ساعة ونصف الساعة من خلال رؤية بسيطة حاول أن يستنبط ملامحها من كلمات الرواية والصراع الأساسي بين هيبا وعزازيل .. بين هيبا وهواجسه وما يدور بداخله ، واعتمد المخرج في هذا علي مجموعة من العناصر الفنية المتميزة التي ساعدته إلي حد كبير في محاولته المسرحية بدءا من عمرو الأشرف الذي صمم الإضاءة والديكور والذي جاء بسيطا ودالا حيث إعتمد علي لوحة ثابتة تدور فيها كل أحداث المسرحية حيث مجموعة من المخطوطات أو المنشورات الكبيرة الحجم تظهر كأعمدة أو شرائط سينمائية عليها حروف وكتابات غير مفهومة وهي غالبا ما ترمز لبعض نقوش المعابد والأديرة القديمة والتي كتبت باللغة السريانية .. والبراعة في اختيار هذا المنظر المسرحي تتأتي من خلال أن هذا المنظر جامع شامل حيث إنه من الصعب تغيير المناظر كما هي في الرواية فالإعلام المكاني في الرواية كبير وممتد ومتشعب ويصعب تجسيده ولا سيما في عروض الفرق الحرة التي تعاني من قلة الإمكانيات المادية ، والسبب الثاني في براعة المنظر المسرحي كونه دالا علي الحدث ذاته والصراع الأساسي فيه حيث يدل المنظر علي الرق أو المخطوطة وهي كتابات أو مذكرات هيبا نفسه ذلك الراهب الذي أوجده كاتب الرواية وكأن المنظر كله من داخل عقل هيبا .
 بينما جاء الشق الثاني من سينوجرافيا العرض وهو الإضاءة كمكون أساسي في هذا العرض جاء مفتقدا للكثير من الدقة والحرفية والدلالة في بعض الأحيان .. لعب المصمم باللونين الأحمر والأزرق جيدا بينما جاءت نقلات الإضاءة في الكثير من المشاهد غير منطقية وغير متوافقة في سرعتها مع سرعة الانتقال إلي المشهد التالي ومن ثم ذابت معظم الأماكن في بعضها وتداخلت مما قد يجعل المشاهد يتوه في الكثير من الأحيان ولا يكاد يعرف في أي مكان هو بالتحديد كما أن ذلك يؤثر بالطبع علي الحالة الشعورية والأثر النفسي المرجو من المشهد ذاته ومن الحدث ككل يسعي للتلاحق في هذا العرض .. بينما جاء الخط اللوني في غالب الشخوص مناسبا والملابس بسيطا وكان اختيار ملابس هيبا موفقا ولا سيما اختياره للونين الأزرق والأصفر، اللون الأزرق كلون بارد وهاديء وبه صفاء نفسي وذهني ومن تحته اللون الأصفر الساخن والذي يجعل العقل مشتعلا دائما وساعيا للتفكير كشعلة متقدة .
 وجاء مكياج تامر الجمال متميزا ولا سيما في كم البواريك والذقون وأشكالها والتي ساعدت إلي حد ما في إدخالنا في جو الحدث والعصر والانتقال بين الشخوص الوثنية والمسيحية وكل ذلك رغم قلة الإمكانيات والتي نعرفها جميعا.
 بينما جاءت الموسيقي التي وضع غباشي التصور لها بنفسه .. جاءت متوافقة مع العرض ومعبرة ودالة عن الحالة الشعورية في كثير من الأحيان وغالبا ما استشعرنا أنها موسيقي يونانية أو بها الملح التركي واستخدامه المتميز للوتريات وبعض من جو التراتيل الكنسية وأصوات الآهات الملائكية وقد استمرت الموسيقي طوال أحداث العرض المسرحي تقريبا وكونت بطانة لكثير من المشاهد وكأننا في فيلم سينمائي وهو شكل اعتمد عليه الكثير من المسرحيين الشباب هذه الأيام للإيحاء بالجو السينمائي علي المشهد المسرحي وإن عابها – أي الموسيقي - في بعض الأحيان أن تصاعداتها كانت أعلي من صوت الممثلين في بعض المشاهد ولا سيما المشاهد الأخيرة ذات الإيقاع المتدفق وليس هذا عيبا في التنفيذ فحسب - حسب القائم علي جهاز التشغيل - ولكنه عيب من عيوب الموسيقي المعدة بشكل عام والتي لم تؤلف خصيصا للمسرحية ، وجاء اختيار المخرج موفقا في الملمح الغنائي البسيط والقليل جدا في العرض .. أما علي مستوي الحركة فقد جاءت الدراما الحركية التي صممتها خلود العيوطي بسيطة ومعبرة ولا سيما في المشهد الأول بين هيبا وهواجسه وفي رقصة أوكتافيا أمام هيبا ، وكذا في رقصة مارتا .
 أما الحركة المسرحية ذاتها التي صممها المخرج فقد انقسمت إلي شقين فجاءت المشاهد الجماعية كلها ذات حركة بسيطة وتقليدية وليس فيها ابتكار أو جديد علي مستوي الصورة ، بينما جاءت المشاهد الفردية أو الثنائية أكثر تدفقا في حركتها وحيويتها ولا سيما المشاهد التي جمعت هيبا بعزازيل أو جمعت هيبا بهواجسه.
أما علي مستوي التمثيل وهو الشق الأكثر تميزا في العرض فقد  ظهر الكثير من الممثلين المتميزين ومنهم أحمد ضياء الدين ، أحمد محمود ، محمد أسامة والذين أدوا دور الهواجس التي تدور داخل عقل هيبا ، وكذا تميز في أدوار النساء الذين قابلهم هيبا في رحلته كل من سارة عبد الله (هيباتيا) ، ومني غنيم (أوكتافيا) ، وخلود العيوطي (مارتا) وهناك أيضا منة صالح (الخالة) وآية صالح (مارتا الصغيرة).. وظهر العديد من العناصر الجيدة مثل أحمد عوض الذي أدي دور الأسقف سيريل ، وكذلك محمد سليمان في دور الكاهن ، كما شارك في العرض كل من نبيل إبراهيم ، زكي ثروت ، أحمد عبد السميع ، محمد عبد الفتاح ، محمد أنور ، إسلام صالح ، أحمد رجب ، نهال عامر ، حسام عز ، محمد شريف ، محمد أسامة ، محمد الخولي ، محمد عبد الفتاح ، أحمد عبد العزيز ، أحمد محمود ، أحمد رجب .. وقد قام بدور هيبا المخرج نفسه والذي قام فيه بمجهود كبير حيث يمتليء الدور بمساحات كبيرة من الاعتمالات الداخلية والصراعات التي تتطلب مجهودا كبيرا في إظهارها .. ولعل مفاجأة العرض التمثيلية كانت فيمن قام بدور عزازيل ( الهاجس أو الشيطان ) وهو الممثل الشاب والموهبة الكبيرة محمود الدياسطي ، والذي أدي الدور في براعة ووعي شديدين إلي جانب قدرته علي التنوع في الصوت وحركات الجسد وتنوع الأداء مما زاد من متعة العرض كثيرا ، وقد سبق أن شاهدت هذا العرض من قبل في المنصورة ضمن مسابقة نوادي المسرح وكان في مراحل إعداده الأولي وقد كان لم ينضج بعد بالشكل الكافي والآن قد أصبح أكثر نضجا وتغير الممثلون كثيرا إن لم يكن الكل تقريبا وهذا أثر علي العرض بالإيجاب وغير فيه كثيرا وأثر في حيويته وتدفقه حيث الممثل هو أداة التعبير الأولي ولا سيما في عرض فلسفي روحاني وبه ملامح الشاعرية بل والصوفية التي يتميز بها كاتب الرواية ولذا فعلي الممثل عبء كبير في عرض كهذا وقد كان أغلب الممثلين علي قدر المسئولية وأداة جيدة للتعبير وأداة طيعة في يد المخرج بالطبع.
 لكن ظلت في المسرحية إحدي أهم إشكالاتها علي الإطلاق وهي فكرة الإعداد، فالمسرحية معدة عن وسيط آخر وهو الرواية وهي منبع وبئر مليء بالأفكار والموضوعات ومن ثم تحتاج إلي التحديد والتكثيف حتي لا تتوه المعاني جميعا فهناك العديد من الخطوط الدرامية الكثيرة والمتشعبة داخل الرواية والتي حاول المخرج المعد أن يتناول كما كبيرا منها فكثرت الشخوص منه وتشعبت الأحداث بل وتاهت وتاه معها الجمهور في بعض الأحيان فلم يعد يعرف من أولئك ومن هؤلاء فهناك جماعة الكنيسة وهناك الوثنيون وكل منهم في الرواية له مشكلاته وامتداداته وتشعباته ولكل منهم قضيته ولذا فمن الصعب إن لم يكن مستحيلا طرح كل الأفكار مرة واحدة ولذا كان يُفضل أن يختار أحد الخطوط الدرامية ويلعب عليه طوال العرض المسرحي حتي لا يطول الحدث ويتسرب الملل إلي المشاهد ولا يكاد يدرك سوي خط واحد وهي علاقة هيبا بهواجسه وعلاقته بعزازيل والتي كان من الممكن أن يكتفي به المخرج وفي هذه الحالة كان سيصبح العرض أكثر تكثيفا وأكثر قدرة علي توصيل هدفه بصورة مباشرة وأكثر جمالا من الناحية الفنية فتعدد العوالم وعنصر المكان في الرواية قد جعل صبري يبذل مجهودا كبيرا في محاولة التنقل من مكان إلي آخر ومن عالم إلي آخر داخل المسرحية في سرعة قدر الإمكان وهذا أثر علي توفير الحالة الشعورية العامة المفترضة للعرض ولذا فقد جاءت المشاهد التي جمعت هيبا بهواجسه وبالنساء الثلاث في حياته حيث رغبات هيبا هي أحد أهم محاور الرواية علي الإطلاق ومشاهده مع عزازيل هي أكثر المشاهد حيوية وتدفقا وهي تلك المشاهد التي جذبت الجمهور واسترعت انتباهه وفهمها بشكل كامل ولذا فقد كان خط هيبا وهواجسه خطا كافيا لأن يصنع عرضا متميزا في حد ذاته ولكن المحاولة من المخرج عموما ومن القائمين علي العمل هي محاولة جيدة لاكتشاف عالم روائي جديد ومواجهة جديدة للذات وتجربة تستحق الشكر والتحية علي جرأة أصحابها وإصرارهم في الوصول لأهدافهم حتي النهاية .
خالد حسونه

No comments:

Post a Comment